الجيش في البلاد التونسية في العهد الحديث (1574- 1815)
يلعب الحدث العسكري دورا هاما في تاريخ الدول والمجتمعات ويمكنه أن يغير مجرى تاريخها بعض الأحيان، كما تمثل المؤسسة العسكرية عنصرا أساسيا في صلب المجتمعات وتعبّر غالبا عن وضعها وطموحاتها خاصة وأنه في الفترة التاريخية التي تهمنا، كادت أن تكون المؤسسة العسكرية هي الوحيدة، إلى جانب المؤسسات الدينية، التي تتمتع بتنظيم واضح . عرفت البلاد التونسية في العهد الحديث، أي منذ سقوط الدولة الحفصية، إعادة تشكل لمعظم مؤسساتها وبالدرجة الأولى المؤسسة العسكرية مؤلفة في ذلك بين مثال القوة العثمانية المنتصرة وإرثها الحفصي الذي لم يضمحل.
أنواع الجيوش القارة في البلاد التونسية في العهد الحديث
عندما ننظر إلى تاريخ الجيوش في المجال المتوسطي الأوروبي أو العثماني في أواخر الفترة الوسيطة وبداية العهد الحديث نلاحظ البروز التاريخي للجيوش القارة على حساب الجيوش “الإقطاعية”. وكانت الدولة العثمانية من بين الكيانات السياسية التي أبكرت في هذا الميدان إلى جانب الممالك الإسبانية: مملكة قشتالة.
عرفت البلاد التونسية تطورا نوعيا لجيوشها بعد أن وقع إقحامها في المنظومة العثمانية. ولكن هذه الوحدات العسكرية القارة كانت متعددة ولكل منها خاصيتها.
الجند أو الجيش “الإنكشاري” في الإيالة التونسية:
يرجع تكوين الجيش الإنكشاري في البلاد التونسية إلى 1574 بعد انتصار سنان باشا على الجيوش الإسبانية. وتجمع المصادر على أن الوزير العثماني ترك فيلقا من بين الوحدات الإنكشارية التي صاحبته عند قدومه إلى تونس وهو الفيلق رقم 101 من الجيوش الإنكشارية السلطانية الذي أصبح العمود الفقري العسكري و السياسي في الإيالة الجديدة.
* كان عدد الجند في وجق تونسي 3000 نفر (أو 4000 ) منظمين على منوال الوحدات العثمانية. فكان الجند مقسما إلى ديار أو بيوت (تدعى كذلك أوضات- جمع أوضة أو اودة أو أرطة) تضمّ الواحدة 20 جنديا، وعددها 150 في البداية، وعرف جند الإيالة نموا متواصلا حتى بداية القرن التاسع عشر وذلك حسب الحاجة العسكرية أو الظرفيات السياسية، فمثلا أضاف يوسف داي (1610-1637) 1000 جندي في 1628، ثم انتدبت عناصر جديدة بين 1653-1665، ووصل عدد الجيوش الإنكشارية في عهد علي باشا إلى 10000 جندي في عهد حمودة باشا الحسيني (1782-1814).
يتميز الجيش الإنكشاري بعدة خاصيات جعلته يتفوق على غيره من القوات الأمنية والدفاعية المتواجدة في الإيالة.
– الخاصية الأولى: هي الاحتراف وما ينجر عنها من التزامات. فالجندي متفرغ للتمارين وللخدمة العسكرية، مطالب بالانضباط والمحافظة- على الأقل- على العزوبية طوال سنوات النشاط العسكري، ومقابل ذلك كان الإنكشاري يتقاضى جراية يومية لتسديد حاجياته تزداد قيمتها حسب ارتقائه سلم درجات الترتيب العسكري ويحافظ على جزء منها عند خروجه للتقاعد. من خصائص الوجق كذلك طرق انتداب أفراده. كانت الفصيلة الأولى التي استقرت في البلاد التونسية تتركب من “السكبان” وبعض عناصر “الكول” السلطاني، ثم حافظ الجند التونسي على الانتدابات الفردية وتأتي هذه العناصر من منطقة الاناظول والجزر اليونانية وكذلك من أوجاق الإيالات الأخرى. كما فتح ديوان وجق تونس أمام عناصر كالأعلاج و المماليك وأفراد من الجالية الأندلسية، وفي القرن الثامن عشر إلى بعض الوسلاتية بعد أن وقع تشريدهم. أي أن القاسم المشترك الأول بين هذه العناصر هو عدم انتمائها إلى المجتمع المحلي وهي غير متأصلة فيه أو مهشمة، وهذا ما جعل الجند يعتبر كامل الفترة الحديثة دخيلا عن المجتمع بالرغم من إقحامه في صلبه بشكل متزايد العناصر (الكوالغليّة) (جمع كولغي: تركي من أم محلية). ولكن لابد من التأكيد على أن الانتدابات في الوجق التونسي كانت فردية وتطوعية. كان الجند يستمد قوته وتفوقه من قدراته الفنية والحربية. وعلى غرار الجيش الإنكشاري العثماني يتكون الجند التونسي من المشاة وفي آخر القرن السادس عشر وأصبح يعتبر من أحسن جيوش المتوسط، وكان يستعمل الأسلحة البيضاء و النارية في نفس الوقت. ولكن خلافا لما كتب عديد المرات فإنّ الأسلحة النارية لم تدخل إلى الإيالة التونسية. هذه الأسلحة كانت موجودة منذ العهد الحفصي، أما الجديد فيتمثل في كثافة استعمالها وكيفية المحاربة بها. فالجندي الإنكشاري يستعمل الخنجر والسيف المقوس (القلج) والفأس والرمح والقوس والسهم إلى جانب البندقية. ونلاحظ ان الأسلحة النارية تطورت بمرور الزمن متّبعة تطور الأسلحة النارية عامة بين القرن 16 والقرن 19، فبعد فترة القربينة (arquebuse) ظهرت بندقية الفتيلة (mousquet) ثم البندقية البارودية (Fusil). وإلى جانب هذه الأسلحة يحمل الجندي على رأسه خوذة واقية ويلبس درعا من النحاس أو من مواد صلبة أخرى. وفي المعارك كان الجند يعتمد طريقة المربعات فيتركّب من مجموعة مربعات تدحر العدو بشكل مكثف بعد أن يكون الفرسان قد حاصروه على الأجنحة. هذه الطريقة في القتال كانت مخالفة لطريقة الكرّ والفرّ المعروفة لدى خيّالة القبائل وأكثر نجاعةوهي نتيجة التمارين والانضباط الجماعي.
ويتميز الجيش الإنكشاري أيضا بعدة اختصاصات منها المدفعية التي أصبحت تلعب دورا أساسيا في محاصرة المدن ومتن السفن وفي مضايقة العدو وإرهاقه، ومن الاختصاصات الأخرى يمكن ذكر واضعي الألغام وحافري الخنادق وصانعي المدافع والبونبة.
الطائفة: الجناح البحري لوجق تونس
كانت القرصنة تلعب دورا هاما على المستوى المتوسطي في فترة استقرار العثمانيين بتونس (1580-1660). كما أنه من الضروري التذكير بأن التواجد العثماني ببلدان المغرب على السواحل الحفصية منذ بداية القرن 16 خاصة كان أساسا لتعاطي القرصنة.
ولذلك فإن الإيالة الجديدة اهتمت بشكل كبير بالنشاط القرصني وسيبقى هذا القطاع حيا- مرورا بفترات ركود- حتى حملة أكسماوث في 1816، وطوال هذه الفترة مثلت القرصنة نشاطا حربيا واقتصاديا تمارسه الدولة وكبار رجالاتها والخواص. فكان للإيالة أسطول قرصنيّ، قاعدته بنزرت يقوم منذ أواخر القرن السادس عشر، بحملات موسمية منتظمة وكان يتركب أساسا في عهد الدايات وخاصة فترة يوسف داي وأصطا مراد الجنويزى الذي قضى سنوات عديدة على رأسه .
ويكون رؤساء السفن مجموعة من كبار ضباط الجيش ولهم وزن خاص وغالبا ما يكونون في البداية من الإعلاج أو من المماليك المنتمين إلى وجق تونس، اما بالنسبة للجنود الذين يشاركون في الحملات القرصنية الرسمية فهم من عسكر تونس، يتطوعون للقيام بهذه المهام وغيرها من المهام العسكرية باستثناء بعض الأرباح المالية الإضافية التي يتمتعون بها في حالة الحصول على غنائم. إذا يمكن القول بانه لم يكن هنالك جيش بحري قار إن لم نعتبر رؤساء السفن، وهذا ما يفسر، إلى حد بعيد عدد اللاوند وأفراد العزب القادمين من المشرق والأعلاج من أوروبا والذين يشكلون أنفار السفن القرصنية. وهذه الوضعية قد تكون- إلى جانب افتقار البلاد التونسية إلى العديد من المواد الأساسية لصناعة السفن- سببا من أسباب ضعف الأسطول الحربي للإيالة، حيث أن هذا الطابع التطوعي للقراصنة وغياب تكوين فنبين في الملاحة: من بحارة نوتية وقادة سفن، جعل الأسطول البحري التونسي غير قادر على مواكبة تطور السفن الشراعية الكبيرة والمعقدة في فن قيادتها والتي أصبحت مكوّنة لأغلب الأساطيل الحربية الاوروبية في المتوسط. حافظ الأسطول الحربي للإيالة على غرار الأسطول العثماني على القوادس وسفن المجاذف. أما المراكب المستعملة فظلّت حتى منتصف القرن 18من الحجم المتوسط والصغير.
يمكن القول إذا أن الإيالة كانت تملك بحرية قرصنية ولكنها كانت تفتقر إلى بحرية حربية قادرة على مواجهة الخطر الخارجي .
وإلى جانب مجموعة الجند (البرية والبحرية) كان الجيش القار للإيالة يتكون من ثلاثة أصناف أخرى تعتبر وحدات مساعدة للوجق الإنكشاري.
عسكر زواوة:
يمثل زواوة مجموعة مضاهية لمشاة الجند، تتركب من برابرة أصلهم من منطقة القبائل بالجزائر. ونجد اثر هذا الجند في البلاد التونسية منذ دخول أتراك الجزائر إليها سنة 1569/1570. اعتمد كل من رمضان وحيدر باشا على عناصر زواوة إلى جانب المقاتلين الأتراك حتى انتصار سنان باشا. وبقيت وحدات زواوة ضمن الجيش القار للإيالة حتى القرن 19.
وكانت هذه القوات منظمة على منوال التشكيلة الإنكشارية أي أن لها ديوانا، وعناصرها محترفة وتتقاضى جراية اقل قيمة من جراية الأتراك. ومن الأشياء التي تتميز بها مشاة زواوة هي كثرة عددها وذلك منذ القرن السابع عشر فقد قدّرها صلفاقو (Salvago) في العشرينات من هذا القرن بـ 12000 نفرا أي حوالي ضعفي الجيش الإنكشاري و في 1802 وصلت إلى 14000 نفرا. كما كانت لزواوة وحدات من الخيالة على غرار خياله الترك ولها أيضا ثكنات خاصة ومحلة تخرج قبل محلة الترك، ويشارك في حراسة القلاع والحصون و بالرغم من الانتقادات الموجهة لهذا الجيش حول قلة نجاعته مقارنة بالجند الإنكشاري، فإنّ الواقع يتمثل في تعزيز زواوة في كل فترات الأزمات السياسية والعسكرية التي عرفتها البلاد وخاصة عندما فقد البايات في مناسبات عدة ثقتهم في إخلاص الوحدات الإنكشارية لهم.
الصبايحية:
يبدو أن تأسيس فيلق الصبايحية (=الفرسان) يرجع إلى بداية القرن السابع عشر (≈1614). يتركب هذا الفيلق من الاهالي ومن زواوة. قام حمودة باشا المرادي بتوزيع الصبايحية إلى 3 أوجاق: تونس والكاف وباجة. وفي وقت لاحق وقع إضافة وجق رابع. كان عدد الصبايحية حوالي 600 فارس يرأسهم آغا خاص بهم، وتواصل وجود هذا النوع من الخيالة حتى القرن التاسع عشر. يشارك الصبايحية في حراسة المناطق المنتجة للحبوب ومراقبتها وكذلك الطرق المؤدية إلى الحدود الجزائرية. ومن مهامهم أيضا مرافقة الباي وحراسته في تنقلاته داخل البلاد والخروج مع المحلة.
حوانب:
النوع الأخير من الجيوش القارة يتركب من الحوانب العرب و يتمثل في مجموعة من الحرس الخاص للباي لا يتجاوز عددها بضعة مئات من الأشخاص. يرجع تكوينها إلى سنوات 1677-1678. ويعتبر الحوانب من رجال ثقة البايات الذين يكلّفون بمهام خاصة غالبا ما تكون متعلقة بالمسائل الأمنية. وقد اشتمل الحوانب في القرن الثامن عشر نجد على صنفين: حوانب عرب وحوانب أتراك.
في آخر التحليل حول القوات العسكرية القارة نحتفظ بثلاث ملاحظات: أولا: يبقى الجند الإنكشاري القوة الضاربة في الإيالة، ثانيا: الجيش القار يتركب أساسا من المشاة ويشكو ضعفا في البحرية ونقصا في الخيالة، ثالثا: هناك ازدواجية تكاد تكون كاملة وذلك منذ بداية القرن السابع عشر- بين العناصر الأجنبية عن الإيالة والملقبة بالتركية والوحدات المتركبة من العناصر المحلية.
الجيوش غير القارة والمساعدة:
لم تعرف الإيالة التونسية نظام الثمار العثماني وذلك بالرغم من بعض المحاولات الراجعة إلى السنوات الأولى من انضمامها إلى لإمبراطورية. ونعلم أن نظام الثمار كان المزوّد الأول للجيوش العثمانية بالفرسان: “الصبايحية”، وكذلك بعدد كبير من المشاة المصاحبين لأصحاب الثمار. ومن المحتمل أن فشل إرساء هذا النوع من “الإقطاعيات الجبائية والعسكرية” هو الذي يفسر عدم وجود جنود عرضيين من بين جيوش الإيالة حتى بداية القرن السابع عشر. وبمجرد أن عرفت الإيالة التونسية بداية استقرار مؤسساتها الجديدة خاصة في فترة التوازن بين الدايات والبايات، بدأت الجيوش غير القارة تظهر تدريجيا على الساحة العسكرية خاصة ضمن قواة الباي.
النوع الأول من الجيوش المساعدة:
يتكون من المزارقية (المزارق هو الرمح) أي من فرسان ينتمون إلى القبائل المحلية. ويقع انتقاء المزراقية حسب كفاءتهم، ثم تسجل أسماؤهم في دفتر خاص ويطالبون عند الحاجة بالخدمة العسكرية. ويتقاضون مقابل ذلك راتبا يتمثل في حصة من الضرائب التي تدفعها قبيلتهم للدولة. ويكلف المزراقية بحراسة قادة قبائلهم كما يشاركون في بعض المهام العسكرية خاصة حماية المحلة خلال تنقلها وحراسة بعض القلاع. ويختلف هؤلاء الخيالة عن فرسان المخزن وقد حافظوا على وجودهم حتى القرن 19.
الجيوش المخزنية:
تمثل بداية القرن السابع عشر فترة هامة في ظهور الجيوش المخزنية وتطورها وذلك في علاقة عضوية بتطور الأحوال السياسية في الإيالة بالرغم من أنّ الدايات كانوا في النصف الأوّل من القرن أصحاب النفوذ في الإيالة وكانت سلطتهم تقوم بالدّرجة الأولى على مراقبته للجيش الإنكشاري والعاصمة. نلاحظ التدعّم الواضح لنفوذ البايات واستناد قوّتهم على القوات المحلية ومراقبة دواخل البلاد. هذا الانسجام الذي كان بين هاتين المؤسستين لم ينف تدعيم المواقف من الجهتين والمزاحمة بينهما. وتميزت الفترة ما بين 1609-1610 و 1640 بحملات عديدة لإخماد فتن بعض القبائل وإخضاعها، قام بها الدايات بالاشتراك مع الجيوش الإنكشارية قصد فرض سيادة السلطة المركزية على مجال الإيالة . وهذه المجهودات خلقت الحاجة إلى تعزيز القوات العسكرية لأن الوجق لم يكن قادرا على تحمل العبء وحده. ونعتقد أن هذا السبب هو الذي جعل البايات يلتجئون إلى العناصر المحلية يحيون نظام المخزن في غياب نظام كالثمار أو الالتزام العثماني.
تمثل المَخْزَنَةُ عملية تعاقديّة ومصلحيّة بين السلطة المركزية و المجموعات القبلية. فالقبيلة المخزنية تقبل سلطة الإدارة المركزية وتصبح حليفة لها وتقدم لها دعما عسكريا يتكون من عدد من الفرسان يتفق عليه ويمكن مراجعته حسب الحاجة. وبهذه الطريقة تضمن القبيلة لنفسها علاقات سلمية مع السلطة وامتيازات جبائية واقتصادية وموقعا متميزا بين القبائل الأخرى أما السلطة المركزية فتمتص خطر الاضطرابات والمعارضة من طرف نفس القبائل وتخلق لنفسها سبل الاستعانة العسكرية بأقل التكاليف.
وضروري أن نلاحظ وجود نظام المخزن منذ العصر الحفصي، وكانت قبيلة دريد مثلا من أشهر عناصره. ومن أول المجموعات التي التحقت بالمخزن المرادي في عهد حمودة باشا وتبعتها في نفس السياق ثلة من القبائل المحاربة الأخرى. فخلال حكم حسين بن علي كانت قبائل الهماهة، وأولاد يعقوب والمثاليث وورغّمة وجلاص…كلها في خدمة المخزن. وتواصل ذلك حتى القرن التاسع عشر. ويتمثل الدور العسكري للقبائل المخزنية في تقديم ما بين 3500 و 4000 فارس للبابليك يستعملها في الحروب الحدودية وفي حماية المحلة عند تنقلها وفي كسر شوكة القبائل الأخرى. وحسب الحاجة يمكن أن يرتفع عدد الفرسان والمقاتلين المنتمين إلى المخزن، كما يمكن أن تقضي هذه العناصر عدة أشهر في السنة في خدمة البابليك. وأصبحت قيادة جيوش المخزن من المراكز الحساسة في سلم المناصب العسكرية، يكلف بها رجال الثقة من المماليك والأتراك كما صار اختيار شيوخ هذه القبائل من القرارات السياسية الهامة، ذلك لأن تأثير الجيوش المخزنية أضحى جليا في الصراعات السياسية الداخلية بين البايات والدايات ثم بين بايات العائلة المرادية والحسينية بعد ذلك. وهكذا أصبحت الجيوش المخزنية ركيزة قوة البابليك بشكل مواز لفقدان الثقة في الجيش الإنكشاري. ولكن تزايد عدد الجيوش المخزنية لا يعكس دورها القتالي الذي كان أقل من دور الجند الإنكشاري وزواوة. وبقيت هذه الجيوش تستعمل الأسلحة البيضاء أكثر من الأسلحة النارية حتى عهد الإصلاحات الذي غيّر دور الخيالة في التركيبة العسكرية التونسية. ومن جهة أخرى كانت هذه الجيوش تستمد قوتها من معرفتها الدقيقة بالبوادي وشعابها وسكانها وكذلك من سرعة تدخلها على ساحة القتال.
المحلة: مؤسسة جامعة لكل أصناف الجيوش
المحلة هي قافلة عسكرية تخرج مرّتين في السنة، تتوجه محلة الصيف في شهر أوت بعد الحصاد نحو المناطق المنتجة للحبوب والشمال الغربي للإيالة مرورا بباجة وترحل محلة الشتاء بين شهر فيفري وشهر مارس نحو الوسط والجنوب في إتجاه الجريد مرورا بالقيروان.
لم تتفرد الإيالة بهذا النوع من المعسكرات المنتقلة والتي ترجع إلى العهد الحفصي، فهناك أنواع مختلفة من “المحلات” في بلدان المغرب والمشرق وأوروبا. وغالبا ما توجد هذه المؤسسة في الدول والمجتمعات التي لم تعرف بعد نظام المركزة الإدارية الناجعة. للمحلة عدة رموز وفعاليات. فهي في نفس الوقت مؤسسة عسكرية وسياسية وأمنية وجبائية وإقتصادية. ولكن الجانبين العسكري والأمني يحتلان مكانة خاصة إذ تمثل المحلة طريقة مراقبة متنقلة ودورية للولاء السياسي تجاه السلطة الحاكمة و يمثل خروج المحلة مشهدا سياسيا واستعراضيا تقوده شخصية من اكبر شخصيات الدولة. في عهد الديات كان الباي بوصفه الشخصية الثانية في الإيالة هو الذي يقود المحلة، ثم في عهد البايات كانت قيادة المعسكر ترجع إما للباي نفسه او لولي العهد (باي المحال). والمحلة هي عبارة عن قافلة ضخمة تتكون من آلاف الناس: عساكر وجيوش، وأعوان الدولة وكل من يرافقهم مما يتطلب سوقيات هائلة وتنظيما محكما عند خروج المحلة وفي كل محطاتها، وعند عودتها إلى تونس. أما الصبغة السياسية للمحلّة فتتجلى في تنقل مثال مصغر من البلاط نحو الرعية بغاية ملاقاتها وإعادة الصلة بتجديد سنوي لولائها. ويتجلى هذا الارتباط في دفع الضرائب والأداءات الموظفة عليها.
أما من الناحية العسكرية فقد أصبحت المحلة منذ عهد حمودة باشا المرادي تجمع كل أصناف جيوش الإيالة: عناصر إنكشارية، أنفار من زواوة، وحوانب الترك والعرب وصبايحية ترك وعرب وكذلك مجموعات من المزارقية ومن الجيوش المخزنية، وتخرج هذه الجيوش في أحسن ثوب وأعظم أبّهة ممكنة وتحمل معها كل أنواع الأسلحة بما في ذلك المدافع الصغيرة. ولكن الدور الأساسي للمحلة يبقى جباية الضرائب، وستحافظ عليه إلى القرن التاسع عشر عندما أصبحت، حسب بعض المؤرخين، تكاليف المعسكر والمصاريف التي تتولد عنه تفوق ما يجلبه من مداخيل.
ويمكن القول بان المحلة فقدت نوعا من نجاعتها العسكرية والجبائية بمرور الزمن. ولكنها تبقى مؤسسة عسكرية من نوع خاص شاملة لكل أنواع الجيوش وفي نفس الوقت من أحسن الأمثلة على التواصل بين الإرث العسكري الحفصي والنظام العثماني للإيالة.
الجيش والمؤسسات والمجتمع:
في اعتقادنا، أهم ظاهرة اتسم بها إقحام البلاد التونسية في المنظومة العثمانية هي جعل المؤسسة العسكرية في نفس الوقت المصدر الشرعي للسلطة والعمود الفقري للإدارة وبقية المؤسسات. فالمؤسسات التي تداولت على رأس الإيالة منذ 1574 كانت كلها عسكرية: الباشا – الداي- الباي…واعتمدت في التصرف في شؤون الإيالة على مختلف أصناف الجيوش القارة بالدرجة الأولى وغير القارة بالدرجة الثانية وأصبحت المجموعة العسكرية بمثابة المشتل لكل أعوان الدولة.
نظام الإرتقاء
يبدو لنا أن التنظيم العثماني للكتلة العسكرية والذي كان متبعا بشكل عام في الإيالة التونسية قد أعطى للمؤسسات لحمة وتكاملا يفسران العديد من خاصيات الإيالة.
يبين لنا نظام الارتقاء في الجند الإنكشاري مدى التكامل بين المجموعة العسكرية من جهة والهياكل الإدارية والمجتمع من جهة أخرى. فالجندي البسيط (اليلدش) ببيت اوضة الذي ينخرط في وجق تونسي يقع إلحاقه ببيت (الاوضة) من بيوت الجند. وبإمكانه أن يصبح بعد بضعة سنوات أوضا باشيا: على رأس الأوقة، بعد ان يمر برتبة باش يلدش، ووكيل الحرج، وسنجق باشي واية باش. وبعد ذلك يمكنه دخول حلقة الضباط الكبار ويصل إلى رتبة اغا. وعند الوصول إلى رأس سلم الدرجات يمكنه أن يتقاعد. هذا التدرج كان في متناول كل جندي منضبط، كفء وطموح، علما وان الارتقاء يوفر المال، بتحسين قيمة الجراية من درجة إلى درجة أخرى، وكذلك الامتيازات المرافقة لها، ويكسب أكثر نفوذا داخل مجموعات الضباط والأوساط السياسية والاجتماعية. ولكن الإحالة على المعاش لا تعني نهاية “الخدمة” لأن هنالك عدة آفاق تبقى مفتوحة امامه وهي المناصب المدنية والمهام الخاصة لدى اصحاب المؤسسات العليا. وهكذا يلعب نظام الارتقاء داخل المجموعة الإنكشارية دورا هاما على مستوى الاندماج الاجتماعي لعناصر الجند الأجنبية على الإيالة. فالعلج يمكن أن يصبح دايا والجندي كاهية أو بايا … فالحركية المهنية والاجتماعية التي نلمسها من خلال الارتقاء داخل الوحدات الإنكشارية كانت كذلك موجودة في صلب الوحدات العسكرية الأخرى وتمثل أحسن عتلة للنخب المحلية من أجل الإنصهار في هياكل السلطة. هذا ما جعل العديد من الملاحظين والمخبرين وكذلك المؤرخين ينعتون المجتمع التونسي الحديث بمجتمع “مفتوح”.
مظاهر الوزن الاقتصادي للجيش
لا تقل الأهمية الاقتصادية للجيش عن دوره العسكري والسياسي والاجتماعي حيث أن دفع جراية الجند وتوفير الإمكانيات المالية لتلبية حاجياته الحربية والمعدات والثكنات والانتدابات الجديدة من الاهتمامات الأولى للسلطة. فالضغط على عدد الجيوش الذي التجأ إليه الحكام في بعض المناسبات لا يكفي للحد بشكل كبير من المصاريف، وعلى الدولة استنباط موارد متجددة لتسديد حاجيات الجيش. ونلاحظ أنه منذ تنصيب الإدارة العثمانية في تونس كانت أعلى المؤسسات في الإيالة تهتم أساسا بتنظيم الجيش ومستلزماته ونذكر على سبيل المثال: الديوان ودار الباشا.
الديوان: يهتم الديوان بالمسائل الإدارية والقضائية المتعلقة بالجند فتقوم المؤسسة برآسة الآغا بتسجيل أفراد الجند وأبنائهم…في سجلات خاصة، كما يشرف الديوان على الانتدابات الجديدة و يسهر على سلم الترقيات والإحالة على التقاعد وضبط الجرايات وخدمات الجند. وحافظ الديوان في فترة الدايات ثم البايات على هذه المهام بالرغم من بروز مصالح جديدة تهتم بالشؤون العسكرية، خاصة بالاصناف الأخرى من القواة المسلحة الملحقة بقصر باردو.
دار الباشا: هذه المؤسسة تسهر على النواحي الاقتصادية والمالية للوجق وبالرغم من تهميش دور الباشا خلال القرن السابع عشر فإن مؤسسة دارالباشا حافظت على دورها، فكانت تدفع جراية الجند كل شهرين وتتكفل بمصاريف المحلة ومستحقات الجند من إحسانات توزع عليه كالملف، والمكافئات… وحاجيات القلاع والحصون… وكان الباشا يسهر بنفسه على هذه الخدمات وفي غيابه يتكفل بها كاهية دار الباشا. ومن الواضح أنه بعد فترة “التشكل الإداري” العثماني في الإيالة وعدم إقرار نظام الثمار فيها وجب توفير إمكانيات مادية جديدة للقيام بحاجيات الجيوش. ويبدو أن فترة عثمان داي كانت حاسمة في هذا المجال حيث أنه أقر أداة خاصة تدفع سنويا من طرف كل “زمالة” وتسمى ” المجبى” وترصد مداخيلها لدار الباشا قصد توفير حاجيات الجند. ثم أضيفت أقساط أخرى من الضرائب -ولنفس الغرض- إلى جانب العديد من اللزمات والمكوس ومداخيل ممتلكات دار الباشا وأحباسها. فكانت لزمات دار الجلد مثلا تدفع لفائدة دار الباشا وكذلك القمارق والمواني، وسوق الترك ولزمة الباطان ومحطة تامكرة.
أما بالنسبة للجيوش المحلية والمخزنية فإن تكاليفها كانت تخصم من الضرائب التي تدفعها القبائل خاصة وتمثل بدورها جزءا هاما من عائدات الدولة.
وهكذا يمكن القول بأن الجيش كان يستهلك جزءا هاما من مداخيل الدولة مما سيشكل عبئا كبيرا على خزينتها وإمكانياتها عند انعكاس الظرفية الاقتصادية العامة بعد 1815.
أدخلت الأحداث العسكرية لسنة 1574 عنصرا هاما في تاريخ البلاد التونسية يتمثل في “هيكل فني” وفئة اجتماعية وعسكرية هيمنت بشكل أو بآخر على كامل المجتمع طوال ما يقرب من ثلاثة قرون.
المراجع:
البشروش (توفيق) موسوعة مدنية تونس، تونس 1999.
-GUELLOUZ E, MASMOUDI A, SMIDA M, Histoire de la Tunisie. Les temps modernes, S.T.D, La Tunis, 1983.
– CHERIF M-H, Pouvoir et société dans la Tunisie de Husayn Ben Ali, 1705-1740, 2 vol , Université de Tunis, Tunis, 1984 , 1986.
– RAYMOND A, Ahmed Ibn Abi al-Diyaf : Ithat al-zâman bi-ahbar muluk Tunis wa Ahd al –âman, Tunis, 1994.
– MOALLA A, The Regency of Tunis and the Ottoman Porte, 1777- 1814. Army and Governement of a north African Ottoman eyelet at the end of the Eighteenth Century, London-New-York, 2004.
– HITZEL F , L’Emprire Ottoman, XVe– XVIIIe siècles, Paris, 2002.