البحريـــــة القرطاجيــــة
تمتد السواحل التونسية المشرفة على حوض البحر الأبيض المتوسط على قرابة 1300 كلم وقد وفر هذا الشريط الرابط بين طبرقة بالشمال الغربي ورأس جدير بالجنوب الشرقي أرض نجاة للبحارة الذين يرتادون ضفاف هذه الربوع منذ العهود القديمة.
وكان القرطاجيون أول من أعطى للبلاد التونسية بعدها المتوسطي حين وقفوا أمام الزحف الاغريقي الذي بدأ يهدد، منذ بداية القرن VIII ق. م، المصالح التجارية الفينيقية بالحوض الغربي للمتوسط. ولعل تجمع فينقيّ صقلية بمستوطنات بانرموس وصلويس وموتيا بالضفاف الغربية للجزيرة أو تأسيس قرطاج لمستوطنات ابيزا بجزر الباليار شرقي اسبانيا سنة 650 ق. م، أو أيضا تحرك الأسطول البحري القرطاجي سنة 600 ق.م لمحاولة منع تأسيس مستوطنة فوسي (مرسيليا اليوم ) على مصب نهر الرون، إضافة إلى العمليات العسكرية البحرية بالبحر التيريني زمن حكم مالكوس والماغون الأوائل، فجميع هذه التحركات البحرية تبرز جليا حرص قرطاج على مواصلة لعب دور المدينة الأم صور في مراقبة المسالك التجارية البحرية للمعادن بالمتوسط الغربي.
إن سقوط مدينة صور سنة 574 تحت ضربات البابليين مهد لقرطاج لتصبح القوة الحامية للمستوطنات الفينيقية بالغرب. وقد أهل الأسطول البحري العسكري قرطاج لهذا الدور الجديد ولعل نجاحه في المعركة البحرية ضد الأسطول الإغريقي الفوسي إلى جانب الأسطول الإترسكي بواقعة آلاريا بمياه كرسيكا سنة 535 دليل على نجاح قرطاج في تقمص الدور الجديد .
إن خيبة هيمراس بصقلية سنة 480 لم تمنع عزيمة قرطاج في مواصلة دورها الجديد, ولعل عودتها القوية في النصف الثاني من القرن V ق.م من خلال إعادة هيكلة أسطولها العسكري و التجاري إلى جانب قوتها البحرية، دليل على ذلك. فالرحلات البحرية التي قادها كل من حنون و خيملك إلى المياه الأطلسية الجنوبية و الشمالية, ثم إعادة السيطرة على الثلث الغربي لجزيرة صقلية سنة 410 ق. م المؤيدة بمعاهدة 383 ق. م مع دينيس الأكبر حاكم صرقوصة مع إحكام السيطرة على سردينيا و جزر البليار، هي علامات كبرى على العودة القوية لقرطاج إلى المجال البحري. هذه العودة أهلتها لتصبح سيدة البحار بالمتوسط الغربي, دور سيلازمها إلى مشارف اندلاع الحروب البونية في القرن III ق.م.
وانطلاقا من هذا المنظور فإن البحرية القرطاجية مثلت حجر زاوية قوة قرطاج. فالوحدات البحرية و الموانئ و التجهيزات المادية و البشرية شكلت قواعد هذه المؤسسة البحرية.إلى جانب ذلك فإن السياسة البحرية التي سلكتها الدولة أعطت لهذه المؤسسة جميع الأدوات السانحة لتضطلع بهذا الدور الريادي سواء كان ذلك أثناء فترة تأسيس الدولة و مرحلة الانتشار أو فترة الازدهار و الإمبراطورية البحرية القرطاجية الممتدة على القرن IV و بداية القرن III ق.م. حتى زمن التراجع الذي شهدتها الأنشطة البحرية العسكرية القرطاجية فإن الدولة لم تتوان عن تجهيز العاصمة قرطاج بميناء عسكري لا تزال ملامحه بارزة إلى اليوم لزوار قرطاج صلامبو بضاحية تونس الشمالية.
وكانت البحرية القرطاجية تملك العديد من الوحدات العسكرية أحادية صف المجاذيف و متعددة صفوف المجاديف. و يعود تنوع الوحدات البحرية إلى التطور التقني الذي عاشته ورشات بناء السفن, إذ تم الانتقال من السفن الحربية ذات الصف الواحد من الجذافين خلال الفترة العتيقة إلى السفن المتعددة الصفوف أو الطوابق خلال الفترتين الكلاسيكية والهلنسيتية. فضمن المجموعة الأولى نجد الإيكسور (سفينة ذات 20 جذاف ) والترياكونتورس (سفينة حربية ذات 30 جذاف ) أو أيضا البنتكنتورس (سفينة ذات 50 جذافا) إضافة إلى السفن الصغرى السريعة مثل اللمبوس و “السراقة” جميع هذه الوحدات يطلق عليها أيضا بالوحدات البحرية الصغرى. أما الصنف الثاني أي الوحدات البحرية الكبرى ذات الصفوف المتعددة أو الطوابق من الجذافين فمنها نجد الثلاثية(الترييارس) و الرباعية(التترارس) و كذلك الخماسية(البنتارس) أي وحدات بحرية ذات ثلاثة طوابق، أربعة طوابق و خمسة طوابق من الجذافين.
وكانت الدولة تشرف على بناء الوحدات البحرية وخاصة الكبرى منها و قد ذاع صيت بناة السفن القرطاجيين في هذا المضمار. من ذلك أن هؤلاء لم يكتفوا بتصنيع ابرز الوحدات البحرية المنتشرة في المتوسط بل ساهموا أيضا في تعويم وحدات بحرية جديدة مثل الرباعية أو التترارس التي تم تصنيعها في القرن الرابع ق.م.
فإلى جانب الرباعية قرطاجية الصنع مثلت الخماسية الصرقوسية الصنع الوحدتان البحريتان العسكريتان الأكثر انتشارا لدى القوى الحربية البحرية في المتوسط خلال الفترة الهلنسيتية.
وقد ساهمت وحدات الصنع بميناء قرطاج الحربي بقسط كبير من الوحدات البحرية الحربية التي امتلكها الأسطول القرطاجي. بخاصة منها الوحدات الكبرى كما ساهمت المحطات البحرية الإفريقية و الأسبانية و الجزيرية في مجهود الدولة الحربي البحري كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فورشات صنع السفن بالمواني الإفريقية مثل هيبوديارهتوس(بنزرت), أوتيكا, ( تونس) أو أسبيس (قليبية ) و حضرموت (سوسة) و قرقنة تساهم بالخصوص في بناء الوحدات البحرية الصغرى. وكان يمكن أيضا للدولة أن تستنجد بالخواص من خلال تسخيرها لسفنهم الحربية كما هو الشأن بالنسبة للسفن التجارية الخاصة لنقل العتاد و الجنود والمركوب. وإذا كانت عملية تسخير سفن النقل الخاصة تعود إلى القرن VI ق.م فإن السفن الحربية الخاصة تم الاعتماد عليها بالخصوص زمن الحروب البونية أي خلال القرن III وبداية القرن II ق.م. فسفينة حنبعل الرودسي وقع تسخيرها مثلا خلال العمليات الحربية البحرية التي جرت في الحرب الأولى و التي تمكن صاحبها سنة 250 ق.م. من خرق الطوق المضروب على القاعدة العسكرية القرطاجية ليليبايوم (مرسلا اليوم) غربي جزيرة صقلية.
الوحدات الحربية البحرية الصغرى
تصنف الوحدات البحرية دون الثلاثية أو الترييارس ضمن السفن الحربية الصغرى. وهي عادة سفن يتكون طاقمها من أقل من 100 رجل مثل البنتكنتورس و الترياكونتورس.
اعتمد هذا الصنف من السفن من طرف شعوب المتوسط منذ أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد و قد جهز الفينيقيون مثل الصورانيون والصيداليون هذا النوع من السفن حين أسسوا مستوطناتهم بغرب المتوسط مع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الأولى قبل الميلاد.
تعود أول إشارة نصية إلى هذا الصنف من السفن و بخاصة البنتكنتورس إلى سنة 535 ق.م. وهي السنة التي دارت فيها المعركة البحرية بآلاريا التي التقى فيها الأسطول القرطاجي و الأسطول الأترسكي ضد الأسطول الفوسي الإغريقي، أي في الوقت الذي لم يعد فيه حاكم صور قادرا على حماية المستوطنات الفينيقية بغرب المتوسط التي يتهددها الإغريق.
يوفر المجال البوني من جهته جملة من الرسوم التي تشير إلى هذا الصنف من الوحدات الصغرى ضمن الأسطول القرطاجي خلال الفترة العتيقة. فالسفن المطلية بحوانيت كاف البليدة بجبال خمير و جبل الملزة بالوطن القبلي إلى جانب السفن المنقورة على طلاء حوانيت سجنان بجبال مقعد جملة من الرسوم لمثل هذا الصنف من السفن العسكرية الصغرى.
ولم يكن يقتصر هذا الصنف من الوحدات البحرية الحربية على الأسطول القرطاجي بل نجدها، من ذلك خاصة الوحدة البحرية الرئيسية البنتكونتورس، ضمن جل أساطيل القوى البحرية بالمتوسط خلال الفترة العتيقة و بدايات الفترة الكلاسيكية و التي من ضمنها صور و صيدا و ساموس و ميلا و كذلك كايري وفوسي. و إن لعبت البنتكنتورس إلى جانب الوحدات البحرية الصغرى الأخرى دورا رئيسيا في البحرية القرطاجية العتيقة فإن تواجدها تواصل ضمن أساطيل قرطاج خلال الفترتين الكلاسيكية و الهلنستية، و إن تراجع موقعها إلى الصفوف الخلفية. فأسطول الجنرال القرطاجي خيملك العائم أمام مدينة صرقوسة سنة 396 ق.م. كان من ضمنه 40 بنبتيكنتورس. هذا و إن ورشة بناء السفن الحربية بميناء تونس كانت صنعت للقائد اليوناني آغاتوكلاس أثنين من الترياكونتورس سنة 310 ق.م. أما بوليبيوس فيذكر أن القرطاجيين كانوا يصلحون بقايا سفن أسطولهم سنة 240 ق.م. و التي ضمنها الثلاثية و البنتكونتورس و القوارب السريعة الكبيرة. هذا و أن أبيانوس يذكر لنا أن القرطاجيين بنوا سنة 147 ق.م. خمسين ثلاثية وخماسيات وعدد من السفن الصغرى.
البنتكنتــــورس:
مثل هذا الصنف من الوحدات البحرية القوة الضاربة للأسطول القرطاجي خلال الفترة العتيقة, ومكن قرطاج من منافسة القوة البحرية المتواجدة بالمتوسط الغربي مثل الإغريق والأترسك. كما ساهم هذا الصنف في عودة قرطاج إلى المجال البحري بعد خيبة هيمراس سنة 480 ق.م. من خلال الرحلات البحرية الكبرى التي قادت القرطاجيين إلى جزر الكرنواي ببحر الشمال و خليج غانا بسواحل غرب إفريقيا. وقد ورد في مخطوط هيدلبيرغ المتعلق برحلة حنون ما يلي:” لقد تبين للقرطاجيين أن يبحر حنون خارج أعمدة هرقلس و يؤسس مستوطنات لوبية فينيقية. و قد أبحر في أسطول يتكون من ستين بنتكنتورس و جمع من الرجال و النساء يقدر عددهم بثلاثين ألف مجهزين بمؤن و جميع ما يلزمهم”.
ففي ما عدى عدد الجذافين الخمسين، بحساب خمسة وعشرين رجل لكل صف فمعلوماتنا قليلة عن البنتكونتورس القرطاجية. في الواقع هي متأتية من مصادر إغريقية تتعلق خاصة ببنتكنتورس الطروادي أيني « Énée » أو صورة لها التي يصل طولها إلى 38 متر. أما معدل طاقم هذا الصنف من السفن الحربية فيقدر بمائة رجل و لا يتجاوز في الأقصى المائة و العشرين. هل يمكن أن نطبق هذه الأرقام على البنتكنتورس القرطاجية ؟ انطلاقا من عدد جذافي هذه السفينة و المقدر بخمسين رجل و الذي يمكن سحبه على جميع البنتكنتورس المتوسطية فإن معدل طول الوحدة القرطاجية يقارب طول الوحدة الإغريقية أي قرابة 38 مترا. و اعتمادنا على هذا الطول يستند إلى كون هذا الطول يأخذ بعين الاعتبار المسافة الفاصلة بين الجذاف و الآخر و المقدرة بثلاث أقدام. إذا اعتبرنا أن البنتكنتورس القرطاجية لها نفس معدل البنتكنتورس الإغريقية فإلى أي مدى يمكن سحب الطاقم الإغريقي أي المائة و المائة و العشرين على الطاقم القرطاجي ؟ إن بنتكنتورس حنون و التي تعود إلى الثلث الأول من القرن VI ق.م. لا تفيدنا كثيرا في هذا الباب، إذ حين نطبق الأرقام التي وردت في مخطوط هيدلبيرغ فإننا نتحصل على طاقم جملي ب500 فرد (نوتية، رجال, نساء و ربما أطفال ). للسفينة نفس الشيء بالنسبة لبتنكنتورس معركة ألاريا سنة 535 ق.م. في المقابل فإن ما أشار إليه المؤرخ هيرودوتس حول هذه الواقعة البحرية من نصر على طريقة “كودموس” للستين بنتكنتورس الفوسية على الأسطولين القرطاجي الأترسكي المؤلف من مائة و عشرين بنتكنتورس، هذا النصر يفيد بأن الأسطول الإغريقي تمكن من الوقوف أمام أسطول الحلفاء الذي يعد ضعف. ولعل من أسباب هذا النجاح هو قدرة البنتكنتورسالفوسية التي قد تفوق نظيراتها الاترسكية و القرطاجية. نعلم أن من جملة العوامل المحددة في مدى قدرة الوحدة البحرية الحربية طريقة البناء, التسليح و الطاقم, وعليه يحق التساؤل إن كانت البنتكنتورس القرطاجية تملك طاقما دون مثيلتها الفوسية الإغريقية ؟ و إن قبلنا بذلك يبقى التساؤل قائما ذلك أنه لا يمكن أن نعمم صفة البنتكنتورس القرطاجية التي شاركت في معركة ألاريا سنة 535 على جميع هذا الصنف من الوحدات البحرية التي امتلكتها قرطاج و التي كانت تمخر مياه المتوسط الغربي قبل تاريخ هذه المعركة, كذلك الشأن بالنسبة للبنتكنتورس التي واصلت قرطاج تجهيزها في الفترات اللاحقة في ضوء المعطيات التاريخية و الأثرية التي بحوزتنا اليوم.
الوحـــدات الأخــــرى:
من ضمن هذه المراكب نجد الترياكونتورس أو المركب الحربي ذي الثلاثين جذافا. وأن نعتقد بأن قرطاج قد جهزت هذا الصنف من المراكب الصغرى منذ الفترة العتيقة، فأول شهادة على تواجده تعود إلى نهاية القرن IV ق. م و بالتحديد سنة
310 ق.م. لما أمر أغاتوكلاس و هو في مدينة تونس بأن يبنى له مركبين اثنين من صنف الثلاثين جذافا. يكتب ديدوروس الصقلي فيقول:”بعد هزيمة القرطاجيين، أمر آغاتوكلاس ببناء مركبين اثنين ذي ثلاثين جذافا و أرسل بواحد منها إلى صرقوسة”
أما مركب الأيكسور ذو العشرين جذافا فقد وقع استعماله من طرف الشعوب البحرية المتوسطية منذ أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد و تواصل العمل به إلى العهد الإمبراطوري, و إن لم تشر المصادر الأدبية القديمة إليه إشارة مباشرة حين تحدثنا عن الأساطيل القرطاجية. في المقابل وجب التذكير بأن نفس هذه المصادر كثيرا ما تستعمل أوصاف “صغيرة”، “خفيفة” أو” حارسة” حين تتحدث عن المراكب دون الكبرى. هذا و نعتقد أن المركب المطلي بمغارة رجينا بصقلية بصف المجاذيف الواحد الذي يفوق ثمانية، يمكن تصنيفه ضمن الأيكسور. هذا و أن قرطاج قد امتلكت مراكب صغرى أخرى مثل الميابرو و اللمبوس وهي مراكب قرصنة تشير المصادر إلى تواجدها أيضا بعرض سواحل دلماسيا و منطقة السيريناييك( سرتا الكبرى).
الوحـــدات البحرية الكبــــرى:
مكنت الحملات العسكرية البحرية التي قامت بها قرطاج سنتي 409 و 406 و التي تم خلالها تجهيز أسطولين كبيرين يتألفان من 60 قطعة بحرية و 1500 رجل، ثم 120 قطعة بحرية و 300000 رجل , مكنت قرطاج من تدمير مدينتي هيمراس و جيلا رمزي هزيمة سنة 480، كما تمكنت من السيطرة على موقعين هامين للحضارة الإغريقية بالجزيرة وهما سيلننتا و خاصة أقرجينتا. ولقد مثلت المعاهدة المبرمة مع دينيس الأكبر سنة 405 محطة هامة في سيطرة قرطاج على الجزء الغربي لجزيرة صقلية و حرية الملاحة في مياه البحرالتريني و الأيوني. لبلوغ هذه المرحلة من التفوق العسكري البحري كان لزاما على المؤسسة البحرية القرطاجية أن تكون مجهزة بوحدات حربية تفوق تلك التي بحوزة إغريق صرقوسة و خاصة تفوق الثلاثية أو الترييارس التي كانت وراء هزيمتها سنة 480. إنها مرحلة البدايات الأولى لوحدة الرباعية أو التتنرارس القرطاجية دون الاستغناء عن الثلاثية التي واصلت دورها البارز في الأسطول البحري القرطاجي.
تشير المصادر إلى نجاح حاكم صرقوسة دينيس الأكبر في تدمير المحطة البحرية الفينيقية البونية موتيي سنة 398. و تضيف نفس هذه المصادر إلى أن من جملة التجهيزات التي قام بها حاكم صرقوسة بنائه لوحدة حربية بحرية جديدة تسمى الخماسية أي سفينة حربية ذات خمسة صفوف من الجذافين أو ما تسمى البنتارس. ولعل ظهور هذا الصنف من الوحدات البحرية العسكرية يفيد بأن إغريق صقلية أرادوا من وراء ذلك تعويم سفينة حربية تفوق الرباعية القرطاجية أو التيترارس.
وفي كلتا الحالتين نلاحظ أن المحطتين البحرتين العسكريتين قرطاج و صرقوسة بالحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط أنجزتا وحدتين كبيرتين, الرباعية
والخماسية, ساهمتا في تطوير قطاع صناعة السفن الحربية بالمتوسط مع نهاية القرن V و بداية القرن IV ق.م. وقد تم اعتماد هاذين الوحدتين من طرف القوى العسكرية البحرية و تواصل العمل بها إلى نهاية الفترة الهلنسيتية. هذا وتفيد المصادر إلى النصر البحري الذي أنجزه المقدونيون في واقعة أمرقوس بجزر السيكلاد سنة 322 على حساب الثلاثية أو الترييارس الأثينية تم بواسطة الرباعية و الخماسية التي وفرتها المدن الفينيقية البحرية. هذه الواقعة جاءت لتأكد تفوق الرباعيات و الخماسيات التي أصبحت القوة الضاربة لدى الأساطيل الحربية و أكدت تراجع وحدة الثلاثية التي طبعت الفترة الكلاسيكية لتحتل مراتب خلفية.
الثلاثيــة أو الترييـــارس:
مثلت الترييارس أو الثلاثية القوة الضاربة للأسطول القرطاجي خلال الفترة الكلاسيكية و تواصل تواجدها ضمن السفن الحربية القرطاجية إلى تاريخ سقوط المدينة حيث تواجدت في المعركة البحرية الأخيرة لسنة 147. يقول أبيانوس
أن في هذا التاريخ جهزت قرطاج أسطولا بحريا يتألف من 50 ثلاثية أو ترييارس و خماسية أو بنتارس وعددا آخر من القطع الصغرى. أما ديدروس الصقلي فيشير من جهته إلى أن القرطاجيين لم يريدوا ضرب صرقوسة سنة 409 وعليه لم يجهزوا إلا عددا قليلا من الثلاثيات ليظهروا عدم عداوتهم لها. واصلت البحرية العسكرية القرطاجية تجهيز هذا الصنف من القطع الحربية خلال القرن IV و خلال الحروب البونية إلا أنها, أي الثلاثية تراجعت خلال هذه الفترة لتترك المقدمة للوحدات الرباعية و الخماسية. وفي المقابل وجب التذكير بأن الثلاثية تمكنت من أن صدارة الأسطول البحري العسكري القرطاجي خاصة خلال الأزمات, من ذلك مثلا تواجدها في الصفوف الأمامية مع انتفاضة المرتزقة سنة 240 بولبيوس:”رمم – القرطاجيون – بقايا قطع أسطولهم من ترييارس وبنتيكنتورس و حارسات الكبيرة”.
من المعروف أن سفينة الثلاثية يحركها 170 جذاف يتوزعون على ثلاث طوابق. نجد 62 جذاف في الطابق الأعلى, 54 في الأوسط و54 في الطابق السفلي.
إلى جانب الجذابين نجد قرابة 30 رجل بين قياديين و جنود. فالثلاثية الفينيقية التي ساهمت في الحروب الميدية بين الفرس والإغريق خلال القرن V ق.م.كانت مجهزة ب200 رجل.
إن الثلاثية الكلاسيكية و كذالك الهلينستية كانت تستعمل أيضا لنقل العتاد الحربي و الخيول, وهذه المهام كثيرا ما دفعت بالقوى العسكرية البحرية إلى إدخال بعض التعديلات سواء على هيكل السفينة أو طاقمها. ففيما يخص الطاقم فيمكن أن يحذف مثلا صفا من صفوف الجذافين, عادة ما يكون الصف العلوي ،أو أيضا يقع تنقيص عدد الجنود.
ففيما يتعلق بالثلاثية القرطاجية فإن المصادر عادة ما تكون شحيحة يقول ديدوروس الصقلي بأن لبتين أحد قواد دنيس الأكبر حاكم سرقوصة تمكن سنة 396 من إغراق جزء من الأسطول القرطاجي المنألف من 50 قطعة بحربة التي تنقل”5000 رجل و مأتي عربة”. في موضع آخر يضيف نفس المؤرخ إلى أن “الصقليين قد فقدوا أكثر من 100 قطعة بحرية وأكثر من عشرين ألف رجل” في الواقعة البحرية التي إلتقى فيها لبتين مساعد دنيس مع ماغون مساعد عبد ملقرط أي واقعة كاتانا.
من خلال الأرقام التي يسوقها ديدروس الصقلي فإن الثلاثية الإغريقية تعد طاقما بمأتي رجل, أي الرقم المتداول عن الثلاثية الكلاسيكية في المقابل، فإن الثلاثية القرطاجية تضم طاقما بمائة رجل. هل يعني ذلك أن هذا الرقم هو المعتمد لدى الثلاثية القرطاجية في هذه الفترة ؟ لا نعتقد ذلك خاصة وإن الكاتب يشير إلى أن الثلاثيات القرطاجية “يجملن مأتي عربة”خاصة وإن الكاتب يشير إلى أن الثلاثيات القرطاجية “يحملن مأتي عربة” أي 4 عربات لكل ثلاثية. إن تواجد العربات بهذه الثلاثيات من شأنه أن يدفع بالقرطاجيين إلى إدخال تحويرات على القطعة البحرية والتي من ضمنها، و الأقرب إلى الضن، تخفيض الطاقم, وهو التعديل الذي يفسر هزيمة القرطاجيين. يمكن أن نسوق نفس الملاحظة, أي تخفيض الطاقم لنقل العتاد و المركوب, بالنسبة للأسطول القرطاجي الذي خاض المعركة البحرية الأخيرة خلال الحرب البونية الأولى, أي معركة جزر الأغاتية سنة241.ينقل بولوبيوس هذه المعركة فيقول:”لقد عدل الرومان سفنهم إذ تركوا على اليابسة جميع المنقول ما عدى ما يحتاجونه للمعركة. أما القرطاجيون فظروفهم كانت العكس: ذلك أن سفنهم المثقلة كانت في وضع صعب للمواجهة, و عليه فعند أول مواجهة تم هزمهم لكونهم دون منافسهم في كثير من الأوجه”.هذا وأن بولبيوس قد مدنا بطاقم الثلاثية القرطاجية في العهد الهلينستي حين نقل لنا أحداث تطويق مدينة ليليبايوم القرطاجية بغرب صقلية من طرف الرومان أثناء الحرب الأولى و بالتحديد سنة 250 ق.م. يقول المؤرخ الإغريقي:” جهز أهل قرطاج بالجنود 50 مركبا و بعد أن أعطيت آخر التوصيات للذي يقود هذا الأسطول, حنبعل ابن عبد ملقرط قائد بحري وأحد أصدقاء أدربعل, تم إرساله بسرعة و أمروه بأن لا يفوت الفرصة لمد يد المساعدة للمطوقين. أبحر في عشرة آلاف رجل و أرسى بجزر الإيقوس الواقعة بين ليليبايوم و قرطاج”. فمن خلال هذه الشهادة تتبين أن طاقم كل مركب يتألف من مائتي رجل وهو معدل الطاقم المنسوب للثلاثية أو الترييارس.
أما فيما يتعلق بقياسات الثلاثية القرطاجية يصعب الحسم في هذه المسألة. المعروف أن الثلاثية الأثينية الكلاسيكية لها 35 متر طول و 4,9 متر عرض و قرابة 2,4 م غرق. إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المقاسات الكلاسيكية فإن عنابر الميناء الحربي بقرطاج و التي تعود إلى الفترة الهلينستية و التي معدل طولها 40 متر و عرضها 6 أمتار, قادرة على إيواء صنف الثلاثية.
البنتارس و التترارس أو الخماسية و الرباعية:
تتحدث المصادر عن هذا الصنف من السفن الحربية في الفترة المتأخرة من تاريخ قرطاج. ينقل بولبيوس قوله:” أن الخماسية القرطاجية وقع اعتمادها من طرف الرومان كأنموذج لبناء أسطولهم الحربي في بداية الحرب البونية الأولى. نفس المصدر يذكر بأن الرباعية القرطاجية التي وقع حجزها سنة 250 مكنت القواد الرومان بعد تجهيزها من إلقاء القبض على خماسية حنبعل الروديسي الذي تحدى الطوق الروماني المضروب على ميناء ليليبايوم. في سنة 256 جهزت قرطاج أسطولا ضخما يعد 350 خماسية لخوض المعركة البحرية في عرض إكنومس بصقلية. كما يمكن الإشارة إلى البرنامج العسكري البحري الذي مكن روما من وضع حد للحرب البونية الأولى في واقعة الجزر الآغاتية سنة 241, هذا البرنامج قد اعتمد خماسية حنبعل الروديسي القرطاجي كأنموذج. ونظيف في هذا الشأن أن المصادر الأدبية تحدثت عن حنبعل البرقي الذي ترك لأخيه آزربعل حاكم المقاطعة الاسبانية أسطولا بحريا يتألف من 50 خماسية و رباعيتين و خمس ثلاثيات و ذلك عند خروجه إلى البلاد الايطالية سنة 218. هذا و نعلم أيضا أن قرطاج جهزت سنة 147 أسطولا بحريا يتألف من خماسيات و ثلاثيات و قطع بحرية أخرى صغيرة و ذلك لمواجهة الحصار البحري الروماني لمدينة قرطاج عند الحرب البونية الثالثة.
يتألف طاقم الخماسية القرطاجية خلال الحرب الأولى ضد روما من 420 رجل يتوزعون بين 300 جذاف و 120 جندي أما جذافي الرباعية فيتراوح عددهم من 230 إلى 235 رجل.
هذا وقد اختلف المؤرخون حول وضعية صفوف هذا النوع من السفن أي الخماسية و الرباعية فإن كانت للثلاثية ثلاث طوابق من الجذافين و يحرك كل رجل مجذاف فإن كيفية التجذيف على الرباعية و الخماسية ليس حولها إجماع. هناك من يعتقد أن للخماسية ثلاث طوابق أي تمت إضافة رجل لكل من الطابق العلوي و الأوسط في حين ابقي على رجل واحد بالنسبة للطابق السفلي أو في المؤخرة. فنحصل بذلك على خمسة جذافين أما البعض الآخر فيعتقد بأن الخماسية هي سفينة ذات صف واحد أو طابق واحد و كل ما في الأمر أنه تم وضع خمس رجال لكل مجذاف. فبالنسبة للخماسية و الرباعية القرطاجية يمكن القول واعتمادا على المصادر الإيكونوغرافية أنها من صنف المراكب المتعددة الطوابق أو صفوف الجذافين.
القواعـــد العسكرية البحريــة:
إلى جانب الميناء الحربي بقرطاج,يملك الأسطول القرطاجي عدة قواعد بحرية تسهل بحركاته, و تنتشر هذه القواعد على سواحل إفريقيا الشمالية وبالخصوص بالبلاد التونسية إضافة إلى جنوب و جنوب شرق أسبانبا و بالجزر الكبرى للمتوسط الغربي.
يعود نشاط الميناء الحربي لمدينة قرطاج إلى القرن VI ق.م وهو التاريخ الذي تشير فيه المصادر الأدبية لتحركات الأسطول القرطاجي في مياه المتوسط خاصة الغربي. يشير ديدوروس إلى أن جملة العوامل التي دفعت بحاكم صرقوسة, دنيس الأكبر لإعلان الحرب على قرطاج في بداية القرن الرابع, وصوله خبر حريق الميناء الحربي لقرطاج سنة 368ق.م. أما وصف الميناء فيعود إلى الحرب البونية الأخيرة. وقد نقل المؤرخ أبيانوس وصفا دقيقا جاء فيه:”كانت مواني قرطاج على شاكلة تمكن المراكب العبور من حوض إلى آخر, ندخلها من البحر عبر ممر مائي يصل عرضه إلى سبعين قدم (حوالي 21 متر ) و الذي يغلق بواسطة سلاسل حديدية. فالميناء الأول الخاص بالتجار كان مجهزا بشادات كثيرة و متنوعة. تتوسط الميناء الداخلي جزيرة و تحيط بالجزيرة و الميناء مرافئ كبرى. و تتواجد على طول هذه المرافئ عنابر هييأت لتحتضن 220 مركب, و تعلوا هذه العنابر مخازن لتجهيز السفن. يرتفع أمام كل عنبر عمودان أيونيان يعطيان لدائرة الميناء و الجزيرة شكل رواق. و قد تم بناء محل للأميرال على الجزيرة للتسيير و المراقبة. توجد الجزيرة قبالة المدخل وهي شديدة الارتفاع, بحيث يمكن للأميرال أن يرى ما يدور في البحر في حين يصعب على القادمين من العرض تفحص ما يدور داخل الميناء. وحتى بالنسبة للتجار الداخلين على مراكبهم فلا يمكنهم رؤية دور الصناعة إذ يحيط بها سوران و أبواب يمر عبرها تجار من الميناء الأول إلى المدينة دون حاجة لعبور دور الصناعة.
مكنت الحفريات التي أقيمت بحي الميناء بصلامبو قرطاج تحت إشراف منظمة اليونسكو و المعهد الوطني للتراث من كشف بقايا هذه المواني التي تعود إلى القرن II قبل الميلاد. و يمكن التعرف على الميناء الحربي من خلال الحوض المائي الدائري الذي لا يزال قائما اليوم بصلامبو، أما الحوض الطولي فهو عنوان الميناء التجاري. إن جملة الهضاب الممتدة من سيدي بوسعيد إلى بيرصة تشكل حاجزا يحمي موضع الميناء من الرياح الشمالية الشرقية و الشمالية الغربية. كما يمكن مشاهدة بقايا لعنابر الميناء الحربي التي قياساتها قادرة على إيواء القطع الحربية الكبرى. كما يمكن للزائر أيضا أن يشاهد اليوم آثار مرافئ الميناء التجاري. هذا و قد تم اكتشاف قنال تربط جون الكرم بحي الموانئ البونية و التي تعود إلى القرن IV ق.م.
تشكل موانئ هيبوديارهيتوس (بنزرت),أوتيكا و تونس بالشمال, أسبيس(قليبية) و نيابوليس ( نابل) بالوطن القبلي، حضرموت (سوسة)، روسبينا (المنستير)، طبسوس (رأس الديماس)و قومي (المهدية ) بالساحل, وأكولا(بطرية)، طينة و تكابس(قابس) مع قرقنة و مينانكس (جربة) سلسلة من المحيطات البحرية التي ساهمت في دعم تحركات الأساطيل البحرية العسكرية القرطاجية. يضاف إليها مجموعة أخرى من المحطات البحرية و التي من ضمنها موانئ هيبورجيوس(عنابة بالجزائر)، لبتيس ماغنا(لبدة بليبيا) وغادس (كاديكس)وقرطاجنة بإسبانيا وإبيزا بجزرالبليار وكذالك كل من موتيي ثم ليليبايوم بغربي صقلية و نورا بسردينيا. جميع هذه المحطات شكلت الشبكة المينائية التي أسست لها قرطاج والتي أهلت أسطولها البحري العسكري ليؤمن لها سيادة البحر في المتوسط الغربي.
السياســـة البحريــة:
تنقسم سياسة قرطاج البحرية إلى ثلاث مراحل كبرى. اتسمت الأولى منها و الممتدة من بدايات قرطاج خاصة القرنين VII و VI ق.م إلى غاية بداية القرن IV ق.م أي تاريخ البدايات الأولى لتحركات الأساطيل العسكرية البحرية القرطاجية. اتسمت هذه المرحلة بتكوين الإمبراطورية البحرية. أما المرحلة الثانية و التي نطلق عليها مرحلة السيادة البحرية القرطاجية في الغربي للمتوسط فإنها تبدأ من معاهدات 383 و368، التي يعترف فيها حاكم سرقوصة، دينيس الأكبر، بتفوق قرطاج و سيادتها على مياه صقلية و البحر التريني، و تتواصل هذه الحقبة إلى غاية إندلاع الحرب البونية الأولى سنة 264ق.م أما المرحلة الثالثة و الأخيرة والتي اتسمت بتراجع قرطاج البحري مع نهاية الحرب الأولى و التي تواصلت إلى سقوط العاصمة البونية سنة 146ق.م.