التاريخ العسكري لإفريقيّة في العهدين الموحّدي والحفصي

حافظت إفريقيّة على حدود تقريبية منذ العهد الرّوماني، إذ ضمّت إلى جانب البلاد التونسيّة بلاد بجاية وقسنطينة والزّاب غربا والبلاد الطرابلسية شرقا. ومثلما كان الأمر في العهد الزيري والحمادي، فقد قسّمت إلى بلاد غربية وأخرى شرقيّة ، تتطابق حدودها تقريبا مع البلاد التونسية . وعلى غرار الدّول السّابقة ، انبثقت بهذه البلاد دولة مهيكلة بذات المجال، ذات مؤسسات متطوّرة نسبيا وتقاليد في الحكم ، مستفيدة بصفة خاصة من تجارب الأندلسيين المهاجرين الذين بدأوا يفدون على البلاد زمن حكم أبي زكريا. ومن الجليّ أنّ هذه الدّولة القائمة استطاعت أن توفق بين الارث الافريقي القديم وخصوصيّات الحكم الموحدي المستند إلى التّنظيم القبلي .

السلطان مولاي الحصن الحفصي

الجيش الموحّدي

1 ـ النظام  العسكري :

     لئن تكوّن  الجيش  في الحقبة الأولى من أفراد القبائل التي  يقع  تعبئتها ، دون أن يكون  نظاميّا ، فإن   الدولة  الموحّدية  خصّصت  ديوانا للجيش سجّل فيه أسماء  الجند.  وقد بلغ  عددهم بمرّاكش  في مرحلة أولى  عشرة آلاف . أمّا أثناء المعارك ، فقد  كانت أعدادهم  كبيرة ، إذ قيل أنّ العدد بلغ   ستين ألف خيمة أثناء فتح بجاية ، علما بأن الخيمة تتسع لعشرة جنود .  وكان عددهم أثناء فتح المهديّة  خمسة وسبعين ألف فارس وخمسمائة ألف من الرجّالة ، حسب كتاب الحلل الموشية في الأخبار المراكشية ، فيما ذكر ابن الأثير  مائة ألف  مقاتل ومثلهم من الأتباع  . أما التقديرات الخاصة بجيش عبد المؤمن عند غزو الأندلس، فقد تراوحت بين 200000 مقاتل ونصف مليون، فيما جمعت معركة العقاب سنة 609 هـ / 1212م 600000 جنديّ. ووصل إفريقية صحبة يعقوب المنصور عشرون ألفا. 

   تمثّل القبيلة الوحدة العسكريّة المعتمدة في الجيش الموحّدي.وقد قسّمت كل وحدة  على فرق من عشرة جنود ، يوجد  على رأسها  مزوار. وتتدرّج القيادة  من  قيادة الوحدة  ذات الصبغة القبليّة  إلى قيادة الولاية التي يتولى أمرها الوالي  إلى القيادة  العامّة  ، ويتولاها الخليفة ، أو من ينوبه من أبنائه أو أشياخ الموحّدين. وقد كان الخليفة على رأس الحملات  العسكريّة في  اتجاه الأندلس أو إفريقّية .    

      تميّز الجيش الموّحدي  بتعدّد عناصره ، وتنقسم إلى العناصر  التّالية :

ـ قبائل  الموحّدين : مثّلت  العنصر  الأساسي، وهي  هرغة  ومصمودة وجنفيسة   وهنتاتة وقبائل  تينملل  وكومية  و هسكورة  وصنهاجة . 

ـ القبائل المغاربيّة الأخرى :انضمّت  الى  الجيش  بعد فتح  مراكش  قبائل  زناتة  ومسّوفة و ما أطلق  عليهم  ” عبيد المخزن ” من  القبائل المرابطية  التي أضحت في خدمة المصامدة  .

ـ الأندلسيون  : لمّا  تمكّن  عبد  المؤمن  من بسط  نفوذه على  الأندلس ، أضحى  العنصر  الأندلسي مكوّنا من مكوّنات  جيشه  ،  وقد  ذكر حضوره خصوصا أثناء  الحملات  في  الواجهة  الأندلسّية .

ـ العرب  الهلاليون : بدأ  التحاقهم  بالجيش  الموحدي بعد  قدوم  عبد المؤمن إلى إفريقيّة في سنة  الأخماس الذي  استنفرهم،  مستعملا في ذلك  الخطاب  الشّعري   والسّياسي . وقد أصبحوا يمثّلون  نسبة  هامّة في  الجيش  الموّحدي ، سواء في المغرب الأقصى أو إفريقّية .

ـ الأغزاز : وهم  من الأتراك  الذين  دخلوا  إفريقّية ،  ابتداء من حملة  قراقوش ، وتمكّن  يعقوب  المنصور أثناء  حملته على قفصة  من أسرهم  ومن   تكوين فرقة منهم ضمّها إلى جيشه .

ـ  الرّوم  العلوج : لئن  كان استخدامهم لأوّل مرّة  يرجع إلى  العصر المرابطي، فإن  الخليفة  الثاني أبو يعقوب يوسف قد استكثر منهم ، وكذلك فعل  ورثته ، لتثبيت  حكمهم أو انتزاع  السلطة من طرف ما .

ـ  السّودان : كانوا  ركنا أساسيّا لعديد  الجيوش المغربية ،  ابتداء من الأغالبة ووصولا إلى المرابطين . كوّنوا فرقة خاصة بهم في الجيش الموحّدي ، و اتّخذهم الخلفاء  حرسا لهم .

      أمّا في خصوص عدّة الجيش  ، فقد  تكفّلت الدّولة بكسوة العساكر من المرتزقة  والحشود ،والمتمثّلة في عمائم  وغفائر وبرانس وأكسية .وكانت الراية التي  اتخذها الموحّدون ثم الحفصيون بيضاء . وقد  تنوعّت الأسلحة ، تدريجيّا : فبعد أن  اقتصرت على الرماح والدرق ، أقحمت بعد فتح  مراكش القسي والنبال.  واشتهرت لديهم  السّيوف الهندية والدّرق اللمطية (  المصنوعة من جلد  حيوان اللمط) والرّماح الطّوال  والدروع والبيضات . وقد اتخذوا في حصارهم للمدن والأسوار( مثال فاس  ومكناسة والمرية والمهدية )  عدّة آلات وحفروا حولها الخنادق ، واستعملوا شتى الطرق تيسيرا لدخولها .فكانوا يدكون  الحصون بالأبراج والمنجنيق ،  ويجرّون الدبّابات  ذات الطوابق ويتسلقون أسوارها بالسلالم  ويقذفونها بالكرات الحديدية الملتهبة . كما استعملوا الأكباش والعرادات .ويراقب القائد العمليات من برج     يطلق  عليه اسم المرقبة أو الديدبان . وقد أصلح  عبد المؤمن أسوار المدن  مثل  المهديّة ، لكن تعرضّت أسوار المدن الخارجة عن سلطتهم مثل فاس وقفصة  إلى الهدم .

      ويقع الالتجاء إلى المذهبية  الموحّدية  لتذكية  الروح القتاليّة  للجند ، كما يستعمل الشعر والوعظ بالنسبة الى القبائل العربيّة . ومن المعروف أن  جند إفريقّية  كان يدعى للمشاركة في حروب الأندلس ، أما العكس فلم يكن واردا  . ورغم أن  المصامدة سعوا إلى  توفير المؤن للجيش ، فإن النقص في وجودها قد أدى إلى  هزيمة  العقاب النكراء أمام القشتاليين.  وكان لتمهيد المسالك و حفر الآبار الأثر الكبير على سير العمليّات العسكريّة ، التي يقع الإعلام ببدئها  ، وذلك بضرب الطبول ورفع البنود.

     أما الخطط الحربيّة المتبعة ، فقد  اعتمدت في الغالب على المباغتة وتحرك الجيش سرّا واتباع طرق غير معهودة في السّير . كما اعتمد المصامدة الحيل الحربيّة ،  من نصب الكمائن و اصطناع الفرار واستدراج العدو واستخدام العيون والجواسيس .  وكانت  طليعة الجيش  تقوم بالهجوم الأول الممهّد . وينتظم الجيش  المحارب في شكل  مربع ، إذ يصطف الرّجال بالقنا الطوال  ووراءهم أصحاب الّدروق  والحراب ، ويليهم أصحاب المخالي  المحملة بالحجارة ثم الرماة، ويتوسط المربّع  الخيل، فيما يجلس الخليفة في قبة  حمراء  وراء  الجيش .

أما الاسطول، فإنّه لم يظهر للوجود الا بعد فتح  مراكش سنة 541هـ /1146م، عندما شرع  عبد المؤمن في التفكير في غزو الاندلس وسائر البلاد المغربيّة . و تمّ  استخدام  دور الصناعة الساّبقة  مثل  طنجة  وسبتة وبادس  والمهديّة وتونس  ووهران وهنين وعنابة  وقادس والمريّة .   كما أنشأوا دورا جديدة بسلا وإشبيلية . وقد اشاد ابن  خلدون بعدّة  هذا الأسطول في عهد يوسف بن  عبد المؤمن وبلغ عدد السّفن  الجاهزة لغزو الأندلس  في  عهد  عبد المؤمن مائتين .أما الأسطول المعدّ لفتح ميورقة ، فقد كان 300  جفن . و تعدّدت أنواع  هذه السّفن ،فذكر الشّيني المجهّز بأبراج للدفاع  و الطريدة والغراب والشختورة والحرّاقة، ومنها يقذف بالمنجنيقات  التي  ترمى بالنفط المشتعل . وقد بلغ تطوّر الاسطول   الموحدي  تطوّرا كبيرا ، حتى أن صلاح الدين الأيوبي  طلب من المنصور غلق مضيق  جبل طارق  أمام البحريّة  الغربيّة المتجهة من هناك الى المشرق و أسطولا للتصدّي للصليبيين.   لكن هذا الاسطول  بدأ يضعف مع  هزيمة  العقاب ،  وما نجم عنها من خروج سبتة وبجاية  وتونس  عن سلطته .  

 

 2 ـ المعارك الكبرى

  

 أـ حملات  الموحّدين  على قبائل إفريقية :   شكّلت اتّحادية مصمودة القبليّة عصب الدّولة الموحديّة التي فرضت سيطرتها على كامل بلاد المغرب، فيما مثّل المذهب الموحدي الذي أنشأه محمد بن تومرت الدّعوة لهذه الحركة . وقد قامت ، كغيرها من الدّول الوسيطية، على أسس اقتصاديّة، مرتبطة بالتّجارة والغزو والجباية . على أن هزيمة حربيّة كبرى قد تفلّ في عضد هذه الدّول  وهو ما حصل بالنّسبة إلى الموحّدين، إثر موقعة العقاب سنة 609 هـ/ 1212 م  . 

تمكّن  عبد المؤمن بن  علي من  تأمين  البلاد وتهدين  القبائل البدويّة ،وذلك بنقلها قسرا من إفريقية الى  المغرب الأقصى و تشريكها في حرب الأندلس . وقد  حصل ذلك  إثر  الحملة  العسكرية  التي قادته من  مراكش إلى المهديّة ، فسيطر في مرحلة أولى  على بجاية  وقلعة بني  حماد ، وتقدّم  نحو  الشّرق حتى لامس  خطّ الانتشار البدوي . ولئن رفضت  هذه القبائل   عرض  نورمان صقليّة في مؤازرتها ، فإنّها تحالفت  فيما بينها للتصدّي لعبد المؤمن ، فتجمّع بناحية باجة أكثر من ستين ألف من فرسانهم ، برئاسة  محرز بن زياد  الرّياحي ، صاحب المعلّقة ،  لتدارس الوضع . غير أّنّ  المصامدة  تمكنوا من  استدراج  الأعراب إلى  ناحية سطيف حيث  دارت  معركة انتهت بهزيمة البدو  وفرارهم وذلك سنة 547 هـ / 1153 م. واستعمل  عبد المؤمن سياسة الترغيب والتّرهيب مع قبائل بني سليم ورياح ، وذلك للتصدّي للقشتاليين بالأندلس وترحيلهم من إفريقيّة ، فطلب منهم  تعبئة  عشرة آلاف .

على أن  بسط  الموحّدين  نفوذهم على  إفريقية  التونسية لم  يتحقّق إلا  إبّان  معركة  القرن  التي  دارت شمال غربي  القيروان  مع    ثمانين ألف  من فرسان البدو  المتجمّعين في هذا الموضع  الا ستراتيجي الذي شهد سنة 124 هـ / 740 م  معركة  فاصلة بين  الخوارج وأهل إفريقيّة،  وذلك   إثر  تحرير مدينة  المهدية وسائر السواحل  من الاحتلال  النّورماني  . واتبع  المصامدة  نفس الخطة   المعتمدة في موقعة سطيف ،  والمتمثّلة في  المباغتة والمداهمة  على  حين  غرّة وقطع  الطريق الصّحراوي  الذي يستعمله البدو  عند الانسحاب .  ولمّا أضحت  القبائل محاصرة من التل ومن  الصحراء أدخل الارتباك على صفوفها ، فاختار بعض القواد  الفرار  فيما ثبت  محرز بن زياد  الرّياحي    إلى أن قتل.

   ثم تابع  عبد المؤمن  حملته الى  أن وصل إلى قفصة،    فحاصرأسوارها المنيعة بالأبراج  الخشبيّة ودكّها  بالمنجنيق  . وانتهت المعركة باستئصال شأفة  القبيل الرّياحي ووصول  أعيان الاثبج و زغبة  خاضعين . وهكذا  نجح  عبد المؤمن في  تأمين  البلاد و تهدين  القبائل البدويّة  المحاربة ،  متوخّيا  معها سياسة  النّقل القسري  الى المغرب الأقصى والأندلس ، إذ حمل ألفا من كل بطن من بطونها .

    و سار الخليفة  الثاني  أبو يعقوب يوسف على  منوال سياسة أبيه  في  ترحيل  العرب الى  الغرب . وبعد أن اتّخذ  علي بن  غانية بلاد الجريد  نقطة ارتكاز لمداهمة البلاد  التلية ،  عجّل الخليفة  يعقوب المنصور بالتحوّل لإفريقيّة  .  وحصلت   بين  الطرفين معركة  وطا عمرة، شمال قفصة ، في شهر ربيع الأوّل  عام 583 هـ / ماي 1187 م ،  وقد انهزم فيها  الجيش  الموحّدي مما أجبر  الخليفة على  قيادة  المعركة الثّانية بنفسه،  في 10 شعبان سنة 583هـ / 1187 م ، فاسترجع  قابس  والجريد ونقل قسرا  القبائل الهلاليّة الى بلاد  الهبط  بالمغرب الأقصى .

     لكن  خطر القبائل البدويّة  تواصل فيما بعد مما حدا بالخليفة  محمد الناصر  بالقيام بحملة  ثالثة في  اتجاه إفريقيّة ، وكانت  موقعة  تاجرا بجبل  دمّر ( بمنطقة  تطاوين) في ربيع الأوّل  سنة 602 هـ / أكتوبر 1205 م   منعرجا  هاما في  حركة بني  غانية  التي بدأت في الأفول .

 ــ تحرير  إفريقّية من  الاحتلال النورماني 

تمكّن  النورمان في  فترة وجيزة من بسط سيطرتهم  على شريط ساحلي  ممتدّ بين  طرابلس  والوطن القبلي .وكانت الحملة التي قادها جورج الأنطاكي  على المهديّة  سنة 543هـ / 1147 م  أهم  مرحلة في تاريخ  هذا الغزو ، إذ جهّز 250 شيني أقلعت وعلى متنها  عدد كبير من المحاربين والسلاح والقوت ، مستعملة الاشرعة والمقاذيف. وقد  قام الحمام الزاجل بدور في الاتّصال ، ووقع الالتجاء إلى الحيل والمغالطة في الإعلام .  ونظرا إلى أن الحصار  كان برا وبحرا ، فإن المدينة  المعروفة بحصانة أسوارها  لم تتمكن من الصمود طويلا. ولمّا دخلها النورمان ، أمّنوا  أهل المدينة ،الذين  عادوا إليها بعد  خروجهم منها ، لكن المقاومة  التي قادها البدو استمرّت  ، فيما التجأ الأمير الزّيري  الحسن بن علي  إلى القوّة  المغاربيّة النّاشئة ، الموحّدين .

      حلّ  عبد المؤمن بن علي بالمد ينة المحتلة  في  12 رجب 554هـ / 30 جويلية 1159 م ، قادما من تونس  التي  استولى  عليها . فنزل بزويلة  التي أخلاها النورمان ، وتعزّز  جيشه بالتحاق صنهاجة والهلالية وسكّان البلاد .  فأحكم الحصار بحرا وبرّا حول النورمان المتواجدين  داخلها ، وعددهم ثلاثة آلاف،  مستعملا في ذلك  العدّة  الثقيلة من  أبراج ودبابات و عرادات ومجانيق . ولمّا كانت المعارك بين الطرفين  تدور يوميّا دون تأثير على المدينة  ذات الاسوار المنيعة ، بادر عبد المؤمن ببناء سور غرب المهدية ، لحماية  جنده ومنع فرسان  العدوّ من الخروج . وتيقّن أن  استسلامها يحتاج إلى حصار طويل . وكاد الأمر يصبح مستحيلا ، عندما  قدم في شهر شعبان  554هـ / 1159 م 150 شيني  من صقليّة  لفك الحصار الذي  ضربه ابن ميمون قائد الاسطول المكوّن من 70 سفينة على  النّورمان . غير أن البحريّة الموحدية  منعت  الشواني الصقلية  من الإرساء وصدّتها ، فلاذت بالفرار . وإزاء هذا الوضع واستفحال المجاعة ، لم يجد المحاصرون بدّا من الاستسلام  والرّضوخ لشروط الموحّدين في الخروج  من البلاد إلى صقليّة  على متن مراكب موحّدية ، غرقت من جراء زوبعة شتوية. أما عبد المؤمن فإنّه دخل  المهديّة  محرّرا وذلك بعد 12 سنة من الاحتلال .

 ـ المعارك الأخيرة  واستفحال الأزمة :    

      تعدّدت مظاهر هذه الأزمة على إثر وفاة الخليفة يعقوب المنصور          ( 595هـ / 1195م) ، وتولّي ابنه محمّد النّاصر السّلطة . فقد ظلّت حركة بني غانية تقضّ مضجع الموحدين منذ قيامها سنة 580هـ / 1184 م ، وذلك طيلة نصف قرن . ومن جهة ثانية  تحرّك الجيش عديد المرّات في اتّجاه الأندلس لايقاف الضّغط القشتالي المتواصل  ، وهو ما يعني مجابهة مصاريف باهضة ، ناهيك أن حملة الناصر إلى إفريقيّة بلغت نحو 120 حملا ذهبا ممّا انعكس سلبا على المجتمع المغربي الذي أثقل كاهله بالجبايات ، إذ فرض الناصر ، حسب ابن أبي زرع ، “على كل قبيلة من قبائل المغرب حصّة خيلا ورجالا “. وبدا هذا العجز المالي واضحا أثناء معركة العقاب، لما تأخّرت أرزاق الأجناد مدة شهرين، فاستاؤوا لذلك . وبصرف النّظر عن دور القيادات الماسكة بزمام الادارة والجيش في سرعة نسق الانهيار،فإنّ التطوّر الذي عرفته الممالك النصرانية وتفوّقها التدريجي   يعد عاملا أساسيا  للهزيمة .

ومثّلت خلافة المأمون حلقة أخرى من هذا التداعي، إذ أن تخليه عن فكرة المهدي المعصوم سنة 624هـ / 1227م واضطهاده لشيوخ الموحدين قد فتح الباب واسعا للانفصال الحفصي باسم الشّرعية المذهبيّة . ففضلا عن ظهور بني مرين على مسرح الأحداث منذ سنة 610هـ / 1213م ، فإنّ أبو زكريا الحفصي قد رفض الاعتراف بالخليفة الجديد ، وذلك في خطوة أولى قبل إعلانه الإمارة. وفي ذات الوقت استبد يغمراسن بن زيان بتلمسان  معتمدا على  عصبيّة زناتة ودون اللجوء إلى دعوة مذهبيّة ما .

 

ـ  المؤسّسة العسكريّة في العهد الحفصي ( 625-982هـ / 1228-1574م)

بنو حفص بإفريقية وتأسيس أبي زكريا للإمارة المستقلة :

 لما قدم الخليفة النّاصر إلى إفريقيّة لوضع حدّ لحركة بني غانية الميورقيين ، اقتنع أن البلاد في حاجة إلى وال قوي ومتمتّع بسلطات واسعة لمواصلة حركته ضد البدو ، فعيّن على رأسها أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الانتي . وقد أظهر هذا الأخير قدرة فائقة في مواجهة بني غانية وحلفائهم من الهلاليّة في أكثر من معركة ( في واد شبرو سنة 604هـ / 1208م ، ثم جبل نفوسة سنة 606هـ / 10-1209م) والتّغلّب عليهم. وعند وفاة عبد الواحد في فاتح محرّم 618 هـ/ 25 فيفري 1221م ، لم يتمكّن ابنه أبو زيد عبد الرحمان من البقاء في الحكم أكثر من ثلاثة أشهر، وخلفه ابن عمّه أبو اسحاق ابراهيم بن اسماعيل بن أبي حفص  كنائب عن الوالي السيّد أبي العلاء ادريس بن يوسف حفيد عبد المؤمن  .

انشغل الوالي الجديد بمطاردة ابن غانية ، معتمدا في ذلك على ابنه أبي زيد عبد الرحمان الذي خلفه بعد وفاته سنة 621 هـ / 1224م . غير أن استبداده عجّل بخروجه من الحكم ، فعيّن الخليفة العادل ( 621-624هـ/ 1224-1227م) من جديد أحد أبناء أبي محمد عبد الله المكنى بعبو سنة 623هـ /  1226  . لكن هذا الأخير عزل لأنّه رفض الاعتراف بالخليفة الجديد المأمون  الذي ولى مكانه عامل قابس أخاه أبي زكريا يحيى .

تمكن هذا الشاب الذي حكم اشبيلية من قبل من دخول مدينة تونس في أواخر رجب 625هـ / 1228م ، واستطاع في ظرف وجيز تهدين البلاد ووضع حد لحركة بني غانية وذلك قبل أن يضم إلى إمارته البلاد الغربية ويعلن استقلاليته عن مراكش. ومنذ سنة 627هـ / 1229 م  نزع اعترافه بالخليفة المأمون مقتصرا بذكر المهدي في الخطبة . وقد اتخذ من  قصبة تونس التي شيد بها  مسجدًا جامعا من النمط الموحدي،  مقرا للسلطة . ولم يعلن استقلاليته إلا سنة 634 هـ / 36-1237م على إثر عجز الموحدين عن التصدّي للقشتاليين الذين سيطروا على قرطبة  . وبالتالي  فكر أبو زكريا في إزالة الحاجز الذي حال بينه وبين الموحّدين بمراكش والمتمثّل في ظهور إمارة يغمراسن بن زيان الزناتية بتلمسان، معتمدا في ذلك على أنصاره من الزناتيين ، وهم بنو توجين وبنو منديل . وهكذا دفع بجيش عدده 64 ألف فارس للاستيلاء على تلمسان   .لكن فرار فارس زناتة يغمراسن إلى الجبال قد جعل السيّطرة على المدينة المحاصرة أمرا مستعصيا و أجبر الأمير الحفصي على التّفاوض. وتزامن ذلك مع موت الخليفة الرشيد في جمادى 640هـ / ديسمبر 1242 م  ، فأتته البيعة من عديد المدن الأندلسيّة ، ومن طنجة والقصر الكبير وسبتة و بني مرين . غير أن هذا الاعتراف لم يفلح في إعادة بناء وحدة المغرب،  إذ اكتفى الحفصيون   بحدود إفريقية التقليديّة التي لا تتجاوز بجاية وبلاد الزاب.

ـ  الجيش الحفصي  :

يعدّ  ديوان الجند  من بين الدواوين  الأساسية في المخزن الحفصي ، إلى جانب  ديوان الكتابة وديوان الاشغال ( المالية). ويهتم  بمسك قائمات المنخرطين القارين في الجيش وبتوزيع الأرزاق والعطاءات عليهم ، وإسناد الإقطاعات إلى كبار الجند ، بيد أنه لا يسعى إلى قيادة الجيوش وتنظيم عمليات المحلّة العسكريّة .

أمّا الجيش الحفصي ، فقد كان السّلطان هو قائده الأعلى ، ووزير الحرب هوالمسئول المباشرعنه، ويعضده في ذلك  كتاب وموظفون يسهرون على أزمّة الجند . ولئن ندرت الاشارات إلى رتب الجيش ، فإن رتبة القائد التي تولاها في الغالب العلوج قد تكرّرت المرّات العديدة ، كما ذكرت  خطة قائد الأعنّة ( الفرسان) وقائد البحر أو الأسطول أو صاحب البحر . أمّا الرّتب السفلى ، فهي  محرّك السّاقة أو الأجناد الذي يسهر على حسن سير الجيش ، والعريف. ويتلقّى الجيش تدريبا منتظما، فهو يشارك في الاستعراض العسكري في الميدان أثناء الأعياد، ويخرج في صفوف منتظمة للمحلّة لجمع الضرائب وتأمين المناطق. وعادة ما تتجمع العساكر قبل الحركة قرب سبخة سيجوم أو المحمّديّة، علما بأنّ الحملات  تندر في  فصل الشتاء . 

 وقد مثّل الموحّدون النواة الأصلية المكونة له وانتظم حسب الانتماء القبلي، وكان على رأس كل قبيلة مزوار، وقد بلغ عددهم مائة وعشرين زمن المستنصر. و منح شيوخ الموحدين الاقطاعات ، وذلك فضلا عن الراتب السنوي (البركة ) الذي يتقاضونه. وانضاف إلى هذه النواة الأعراب الذين اشتهروا بفروسيتهم، والأندلسيون الذين كوّنوا فرقا للرماة المهرة في  عهد المستنصر ، والفرنج المرتزقة الوافدون من  شبه الجزيرة الإيبيريّة وايطاليا ، وقد حافظوا على ديانتهم، والعلوج وهم من المماليك المحرّرين، و كان على رأسهم قائد ، وقد شكلوا حرس السلطان ونذروا أنفسهم لخدمته، وتضمّ هذهّ الفرقة حوالي ألفي فارس ، والغزّ الأتراك الذين كانوا حرسا لأبي زكريا ، والسودان  وهم أقليّة في خدمة السّلطان  ، إلى جانب عبيد المخزن المحيطين به في تنقّلاته .أما المتطوّعون ، فإن أعدادهم تتضخّم  كلّما داهم البلاد خطر من شمال المتوسّط  . 

  وتذكر بعض المصادر أن  سبعين مزورًا من جملة المائة والعشرين ، وأربعة آلاف من الفرسان ،انضموّا إلى معارضة خفيّة للسلطان الشابّ المستنصر، قادها عمّاه ، وقد واجهها الأمير بدهاء، فعمل  على تأجيل المواجهة ، حتّى تسنّى له تكوين جيش مواز للموحدين مؤلّف من ثلاث فرق ، عدد كل واحدة منها ألفان: الأولى تركيّة ويرأسها مظفّر من علوج والده ، والثانية أوروبيّة وعلى رأسها ظافر ، والثالثة سودانية ويقودها مصباح الطويل . وعندما تمكّن السّلطان من حسم النـّزاع لصالحه ، أعاد بناء الجيش ، جاعلاً الفرق المكوّنة من الأقليات  تتصدّر الهرم على حساب شيوخ الموحّدين وشيوخ البدو . وبعد أن خبّأ الأسلحة في المخازن، وزّع الرّواتب عوضًا عن الاقطاعات من قسط   الأموال التي كانت تحت تصرّفه ( 8 / 3 ) ، وخصّص المبلغ المتبقـّى ( 8 / 5 ) من مداخيل الدّولة لتجهيز الأسطول البحري  . 

بلغ  عدد الجيوش في الفترات الحرجة ستين ألفًا، مثلما  حصل سنة 1390 ، عند تعرّض المهديةّ للغزو البحري،  فيما لم يتجاوز العشرة آلاف  في ما عدا ذلك من الفترات . بل إنّ العدد انحدر الى أقلّ من ذلك أثناء  فترات الضعف  ( نهاية السابع هـ ومطلع الثامن هـ )  .ومثّل الجيش القارّ في المدن الكبرى ، مثل تونس وبجاية وقسنطينة ، والمسمّى الجند أو الحشم ، النوّاة الأساسيّة، وكان في سائر البلاد مجموعات  صغيرة  .

وانقسم الجيش الى  مشاة  وفرسان ، وكانت قيمة  الفروسيّة في ذلك العصر كبيرة ، وقد تميّز الفارس  الإفريقي الحامل للباس  خفيف و المحميّ بالدرق اللمطيّة والممتشق لسيفه، بسرعة حركته وخفة مناورته  . أما المشاة ، فقد كانوا محتمين بدروعهم ورماة  للسّهام والنبال ، خصوصا أثناء  حصار المدن . كان رمي المنجنيق يساعد على السّيطرة على المدينة ، ثمّ يقع الالتجاء إلى الخناجر والسّكاكين   عند التحام المعركة.

وعرف  الجيش الحفصي بسرعة  تنقّلاته وهجوماته المباغتة،وباعتماد خطّة الكرّ والفرّ التّقليديّة.  ويتوسّط  المشاة  الصفّ  وينتظم الفرسان في الميمنة والميسرة . وتتعرّض المدن  ذات المناعة الطبيعيّة ،  مثل المهديّة وبجاية وقسنطينة ، إلى حصار طويل ، يقترن   بالتدمير والحرق وقطع الشّجر .وعادة ما تتدخّل البحريّة لدعم الحصار البرّي، مثل حصار تونس سنة 1317 م.على أن دورها  ظل محدودا  طيلة هذه الحقبة ، إذا ما استثنينا أهم  معركة بحريّة   سنة 1428 .  

    ـ   حركات الغزو و القرصنة الأوروبيّة ومقاومتها :

 ـ الحرب الصليبية الثامنة : قاد لويس التاسع حملة إلى تونس سنة 668هـ / 1270م ، وذلك بعد أن شارك في حملة سابقة في اتجاه المشرق لاسترجاع القدس سنة 666 هـ / 1267م . ولاشك أن موقع تونس الاستراتيجي كبوّابة افريقيا الشمالية ، ومنطلق للاستيلاء على مصر والشام ، ومكانتها الاقتصادية كسوق تجارية، يعتبر سببا أساسيا لهذه الحملة ، التي أذكت روحها الذهنيّة الصليبية . ومثلما حصل سنة 1535م ، من قبل شارل الخامس ، اختار ملك  صقلية شارل دنجو ( 1267-1270م) كاقلياري بسردانيا لتعبئة جنوده . وفي 18 جويلية وصلت الحملة بقيادة لويس التاسع إلى قرطاجنة، ولم تتعرض في البداية لتصدّ . ولم يلتحق به أخوه شارل دنجو الا عند وفاة لويس في 25 أوت ، على إثر وباء اندلع في المعسكر، من جراء الحرارة وتكدّس الناس ورداءة الغذاء .

أما عن تنظيم المقاومة ، فإن عدم توغل الصليبيين في البلاد ساعد السّلطان على تلقّي المدد من الأوطان ، حتى اجتمعت أعداد وفيرة ، قادمة من قبائل زناتة وبني توجين ومن بجاية ، أما سلطان مصر ، بيبرس ، فقد شرع بدوره في تجهيز العدة لارسال المدد  .وقد أدّى تدفق المقاتلة  إلى تعبئة سواحل رادس بالمرابطين والمتطوّعين ، وذكر من بينهم ألفين من الرّماة الأندلسيين . وكان للمقاومة الشعبية التي اتخذت من قرية أريانة منطلقا لها دور هام في حرب الاستنزاف. أما  المعارك المحدودة بين الجيشين النظاميين ، فإنّها لم تسفر عن ترجيح الكفة لصالح طرف دون غيره . وقد انتهت بالتفاوض وبعقد اتفاقية بين الجانبين تنص على دفع الحفصيين إتاوة قدرها 210 أوقية ذهبا.وهكـــذا تخلصت إفريقية من خطرالغزو،لكن الحملة انتهت لصالح الصليبيين  .

ـ الهيمنة القطلونية : لئن تحولت مدينة تونس إلى محور تمفصل للتجارة المتوسطية وإلى قاعدة بحرية هامة تميّزت بإبرام معاهدات تجارية مع البندقية سنة 629هـ / 1231م ، وبيشا سنة 632 هـ / 1234 م وجنوة سنة 634 هـ / 1236م ، فإنّ الوضع قد ازداد سوءا في عهد أبي إسحاق إبراهيم ( 679-681هـ / 1280-128م) الذي تميّز بالاستبداد والتبعيّة ، إذ فتح الأبواب على مصراعيها للتغلغل القطلوني ، ولقيام حركة ابن أبي عمارة سنة   ( 681-683هـ / 1282-1284 م) . وقد تميّزت الحقبة الممتدة بين نهاية القرن السابع هـ وأواسط الثامن هـ  ببداية ظهور التوسّع المريني من جهة وهيمنة مملكة الأراقون على التجارة الافريقية وازدياد عمليات القرصنة التي تقوم بها بحريتها من جهة أخرى .

وفي سنة 683هـ / 1284 م ، استطاع الأسطول القطلوني المبحر من صقلية التي أصبحت وكرا للقراصنة ، بقيادة روجي دي لوريا ( Roger de Lauria ) السيطرة على جزيرة جربة وأسر عدد من أهلها ، فيما تمكــن أهل الساحل من التصدّي  للهجوم القطلوني المزمع الذي شنّه على المهدية  . وبعد سنة من هذا التاريخ ، أبرم أبو حفص عمر مع القطلونيين والصقليين معاهدة بانيسار ( Panissar ) التي منحت امتيازات عديدة لهم ، أهمها : دفع السلطان جباية سنوية لملك الاراقون ، و إقامة فنادق لتجار قطلونيا  ، وتعيين قائد للعلوج بمدينة تونس.  لقد شهدت هذه الهيمنة تراجعا في عهد أبي يحيى أبي بكر ( 718-747هـ / 1311- 1346 م) ، وانتهت بجلاء الأراقون من جربة ، كما أنّ السلطة تأثرت بالهزّات السابقة.

ـ حملة أبي الحسن المريني على تونس (748-750هـ/ 1347-1349م) استطاع أبو الحسن المريني أن يحرز انتصارًا محدودا على القشتاليين في معركة الجزيرة الخضراء سنة 744هـ / 1344م، بعد الهزيمة النكراء الحاصلة بطريف سنة 741 هـ / 1344 م. غير أن السّلطان صرف نظره عن الأندلس منذ تلك الحقبة ، وبحث عن انتصار سهل نسبيا في المغربين الأوسط والأدنى.

وفعلا تمكّن من بسط نفوذه على كامل بلاد المغرب ، فسيطر على مدينة تونس بعد أن أزاح الحفصيين من الحكم ، ثم حاول تضييق الخناق على القبائل البدوية ، وسحب الاقطاعات منها . لكن هذه القبائل استطاعت أن تتصدّى له وتهزمه بموقعة القيروان في مطلع سنة 749 هـ / 1348 م. وما أن علمت العامة بمدينة تونس بهزيمة أبي الحسن بالقيروان حتى بدأ التململ يدبّ في صفوفها، واتخذت الآلة لحصار القصبة واستعدت لذلك . وفي سنة 750هـ / 1349 م ، عمّت الانتفاضة مدن افريقية وبواديها ضد أبي الحسن الذي أجبر على مغادرة البلاد.

     ثمّ حاول أبو عنان بن أبي الحسن المريني إعادة الكرّة للسيطرة على إفريقية، وتمكّن من الاستيلاء على تلمسان و بجاية  ، وبعدها وصل إلى قسنطينة التي  استسلمت  في شهر رمضان سنة 758هـ / أوت 1357 م . وبعد بضعة أشهر ، استطاع أن يطوق مدينة تونس بحرا وبرا ويستولي عليها ، فيما احتمى ابن تافراجين بالمهديّة ممّا أثار ضده موجة من الاضطرابات ، قادتها خاصة قبائل رياح التي جاءته في البدء طائعة . وانتهت هذه المدة القصيرة برحيله على وجه السرعة إلى فاس .

ـ  القرصنة وحركات المقاومة البحريّة : (772-  897هـ / 1370- 1492م):   

  لمّا عجز الجند عن التصدّي لحركات القرصنة الأوروبيّة ،برزت حركة مقاومة شعبيّة ، تجلّت بوضوح ببجاية سنة 792هـ / 1390م . وقال ابن خلدون في هذا الصدد :”فتنبّهت عزائم كثير من المسلمين  بسواحل إفريقّية لغزو بلادهم ، وشرع في ذلك أهل بجاية  منذ ثلاثين سنة ، فيجمع النفراء والطائفة من غزاة البحر يصنعون الأسطول ويتخيّرون له الأبطال الرّجال ، ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة ، فيختطفون ما قدروا عليه ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة ، فيظفرون بها غالبا ويعودون بالغنائم وسبي الأسرى حتى  امتلأت سواحل الثّغور الغربيّة  من بجاية بأسراهم تضجّ طرق البلد بصخب السّلاسل والأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فداهم بما يتعذّر أو يكاد ”  .

وقد تعرّضت  جزيرة جربة إلى غزو النصارى سنة 790هـ / 1388م . وبعد سنتين من هذا التاريخ حاصر الجنويون مدينة المهدية برا وبحرا، ورموا أسوارها بكرات النّفط ، لكن مناعتها ومقاومة الأهالي للإنزال حالتا دون السيطرة عليها. وقد كان للبحريّة دور فاعل في ذلك في فترة حكم أبي فارس عبد العزيز(796-837هـ / 1394-1434م)، وقد  أعيد فيها بناء الجيش البرّي، الذي  أشاد بخصاله الطبيب المغازلي عصرذاك.  ولعل ما يفسّر نجاح السلطان في ذلك ما شهدته تلك الحقبة من تطور تقني ، تمثل أساسا في استعمال المخزن للبارود على نطاق واسع ضد الغزاة والقراصنة الأجانب والأعراب ، فقد استطاعت محلته على غير المألوف اقتحام البلاد المستعصية بالجريد ووارجلان وصولا إلى توات، محكما بذلك السيطرة على كامل المجال .وكان يمدّ أهل الأندلس بالبارود لدعم تصدّيهم للغزو القشتالي ، وهو ما يعني أن هذه التقنية التي استخدمها بنو مرين منذ سنة 1274م، ثمّ أثناء محاصرة أبي الحسن  للجزيرة الخضراء سنة 744هـ / 1344م، أصبحت شائعة في إفريقية ، التي يوجد فيها منجم للرصاص.

ولئن أولى عناية لبعض الحصون البحرية ، بناء وترميما، مثل رفراف والحمامات وقصر ابن الجعد ورباط المنستير والبرج الكبير بجربة، وليس من  المستبعد أن يكون ذلك في علاقة مع التطوّرات التقنية المتمثلة في استعمال المدفعيّة . والثابت أنّ ازدياد القرصنة في المتوسط وتطوّر الأسطول البحري للمدن التجارية، وخصوصا بجنوة وبيشا والبندقية وبرشلونة ، قد مثّلا دواعي قوية لتدعيم هذه التحصينات ولإعادة بناء البحرية التونسية التي تمكنت من إحراز بعض الانتصارات بصقلية ومن دعم الأندلسيين في محنتهم .  لكن هذه الاصلاحات عجزت عن الخروج من المستنقع ، وذلك بعد أن ترسّخت الرأسمالية التجارية والحرفية بالغرب الأوروبي وتطورت التقنيات البحرية والصناعية بها ، حتّى أضحى البحر المتوسط تحت سيطرة الملاحة الأوروبية بعد أن كان من قبل بحيرة عربية .

ظلت العلاقات مع الدول الغربية متوتّرة ، وتابعت البحرية الافريقية التصدّي للتوسّع القطلوني في المتوسط، والقيام بعمليات القطع البحري. فمنذ سنة 1397م هاجم الحفصيون مدينة Torreblanca بصقليّة ونهبوها مما أدى إلى إرسال ملك قطلونية والأراقون حملة ضد ميناء تدلس الواقع في بلاد الزيانيين ، وتبعتها بعد سنتين حملة ثانية ضد عنابة ، لكنها ردت خائبة نتيجة مقاومة المدينة لها . وفي سنة 1403م أبرم القطلانيون معاهدة صلح مع أبي فارس، أصبح بمقتضاها للصقليين حقوق على جزيرة جربة ، في حين منحت للحفصيين حقوق على جزيرة قوصرة . على أن هذا العقد لم يمنع من مهاجمة القرصان بيرو نينيو سواحل المغرب وخصوصا مدينة تونس سنة 1404م  .

وقد تمكن أبو فارس عبد العزيزمن إتمام ما أنجزه والده أبو العباس أحمد ، فأعاد كلاّ من جربة وطرابلس إلى حضيرة إفريقية  . ثمّ تابع توسعه في اتجاه مدينة الجزائر التي دخلها سنة 813هـ / 1411م ، وفي سنة 827هـ / 1423م سيطر على مدينة تلمسان  ، وبهذا بلغ الحد الذي بلغه مؤسس السلطنة أبو زكريا من قبل . جاء في الزركشي : “ولحقته بيعة فاس ثم بيعة صاحب الأندلس فصارت البلاد الافريقية والمغرب الاقصى والأوسط كلّها تحت نظره وفي ملكه” . ويبدو أن عدول أبي فارس عن مواصلة حملته في اتجاه فاس تفسر بانشغاله بأمر الخطر القطلوني، وذلك بعد أن تولّى الفنصو الخامس الحكم سنة 1416م ، فوسع دائرة سيطرته على المتوسط ، التي بلغت نابولي إلى جانب صقلية ، وأصبح يهدّد السواحل الجنوبية للمتوسط . ففي سنة 827هـ / 1423 م ، جاء رسول من قطلونية إلى سلطان تونس ، ولما علم أنه كان محاصرا لتلمسان ، أخبر ملكه بذلك ، فجهز الفنصو في الحين حملة إلى جزيرة قرقنة فيها خمسون جفنا . ويبدو أن الهدف الأساسي كان جزيرة جربة ، لكن عودة السلطان إلى تونس أثنت الغزاة عن مواصلة طريقهم ، فعجّلوا بالرحيل عن الجزيرة ، حاملين معهم غنائمهم .

و لم تمر خمس سنوات (سنة 832هـ/ 1429م) حتى جهز أبو فارس حملة لمعاقبة جزيرة مالطة التي كانت منطلقا لمهاجمة السواحل الافريقية ، وقادها مملوكه القائد رضوان ، فخرّبت غاباتها ثم عادت . وردا على ذلك ، انطلقت من قطلونيّة 130 سفينة سنة 835هـ / 23 ماي سنة 1432 م ، وبعد مرورها بميورقة –سردانية-صقلية- مالطة ، وصلت شواطئ جربة في أواسط شهر أوت ، وتمكنت من دخولها ومن قطع القنطرة الرابطة بين الجزيرة والبر . على أن محاصرة جيش السلطان للجزيرة قد أدى إلى انسحاب الغزاة في أواسط شهر سبتمبر .

ونتج عن هذه الاعمال أنّ البحرية الافريقية استعادت قوّتها نسبيا ، إذ اهتم السلطان بالحصون الساحلية ترميما وإنشاء ، وبالاسطول البحري الذي تمكن من الانتقال من الخطة الدفاعية إلى مهاجمة الجزر البحرية القريبة .

أما فترة حكم أبي عمرو عثمان(839-893هـ / 1435-1488م) ، فقد بدأت بإلقاء القبض على قائد العلوج نبيل ، وذلك بعد أن اتسع نفوذ العلوج الذين استولوا على معظم الولايات والأوطان  واستبدوا بالحكم ، وأضحوا قوة فاعلة.  على أن نكبة القائد نبيل ومصادرة أمواله سنة 857هـ  لم تغيّرا من سياسة أبي عمرو عثمان بل إنّه ازداد اعتماد على العلوج، وفي المقابل أصبح أكثر حذرا من إسداء المناصب للأسرة الحفصية . 

  ولئن كان إرسال أبي فارس البارود والمؤونة لأهل غرناطة لم يغير كثيرا من موازين القوى في شبه الجزيرة الإيبيرية وذلك بعد أن تمكن البرتغال والاسبان من السيطرة على التجارة والملاحة في المحيط الأطلنتي ، فإن استعمال هذه الأسلحة النارية في الداخل  قد أدى إلى بسط الحفصيين نفوذهم على كامل البلاد ونجاحهم مؤقتا على الأقل في إعادة بناء الدولة والسيطرة على القبائل البدوية النابذة وعلى بلاد الواحات ، وذلك بعد أن عجز السيف عن مقارعة نيران البارود وهو ما يسّر إعادة تنظيم الاقتصاد وإزالة عديد المجابي والمغارم، وبناء البحرية.   ومما ساعد على هذه النهضة الأخيرة ازياد هجرة الأندلسيين  قبيل سقوط غرناطة سنة 897 هـ / 1492م إلى إفريقيّة .

– مرحلة الانهيار والهيمنة الأسبانية :

لم تكن هذه التطورات العسكريّة قادرة على إيقاف السقوط في المستنقع .ففد وافق سقوط غرناطة وعجز المغاربة عن التصدّي للتوسع القشتالي والقطلوني بداية تدهور الأوضاع العامة بالسلطنة الحفصية وتفكّكها ، ذلك أن الضغط الاسباني المتواصل على بلاد المغرب أضعف المخزن وأدى إلى بروز بنًى متفككة ، وإلى تنشيط الدور القبلي والطرق الصوفية والزوايا بإفريقية ، وإلى تفعيل دور الشرفاء بالمغرب الأقصى.

      وقد مثلت وفاة ولي العهد محمد المسعود المعروف باستقامته، في شعبان 893هـ / 1488م ، حدثا بارزا في المملكة، فبدأ الصراع  على السلطة داخل الأسرة الحفصيّة .  وانتهت بحكم السلطان أبي عبد الله محمد بن الحسن بن محمد المسعود (899-932هـ / 1494-1525م ) . ولئن اعتبره ابن أبي دينار فطنا وذكيا وفصيحا ومحبّا للخير وأهله ، فإن الخط البياني الاقتصادي والاجتماعي ظل في تراجع طيلة مدّة حكمه وشرع الاسبان في التسرّب إلى البلاد بعد سقوط غرناطة ،و بسطوا نفوذهم على بجاية ثم طرابس سنة 1510م . وفضّل أهل الجزائر الاستنجاد بالقائد التركي عرّوج عوضا عن التوجه إلى بني حفص وذلك لمواجهة الهيمنة الاسبانية . وبينما استعاد العثمانيون بونة وبجاية من يد الاسبان سنة 1522م، تمكّنت مقاومة السكان بجزيرة جربة من صدّ الاسبان إلى حين سنة 1526م .

لقد نجم عن عجز البحرية الافريقية على مواجهة الهيمنة الأجنبية تداعيات داخلية تمثلت في ازدياد الاضطرابات القبلية  . ومثلت هذه الحقبة النهاية الفعلية للفترة الحفصية، والانعطاف نحو مستنقع دام أكثر من نصف قرن .  وعلى إثر وفاة هذا السلطان  ، تولى إبنه الحسن   الحكم ، فأظهر في بداية أمره الاستقامة ، وأزال المكوس  . غير أن ذلك لم يدم طويلا حتى تفاقمت الأزمة ، وقامت الثورات في كل مكان، أهمها حركة الشيخ عرفة بن نعمون الشابي الصوفية.

وخلال هذه الفترة المتميزة بالتفكّك، تمكّن خيرالدين بربروس من الاستيلاء على مدينة تونس سنة 1534م . وهو ما أدّى بالسلطان حسن إلى طلب النجدة من الاسبان للتخلص من العثمانيين . وهكذا فتحت الحرب الدائرة بين القوتين سنة 1535م الباب واسعا للتسرّب الأجنبي والهيمنة على البلاد . وقد انتهت في الأول لصالح الاسبان الذين دخلوا مدينة تونس وعاثوا فيها فسادا . وعلى حد قول ابن أبي دينار ، أسر فيها ثلث سكان المدينة ومات ثلث آخر وهرب الثلث الباقي ، وكان كل ثلث يعد ستين ألفَا . وقد مثّل هذا الحادث منعطفا تاريخيا هاما ، وضع حدا للحقبة السابقة التي تميزت بالاستقلاليّة .

وفي 25 جويلية من نفس السنة فرض الملك شارل الخامس على الحسن معاهدة مخزية تضمّنت عدة بنود أهمها : تحرير الرقيق النصارى بالمملكة وحماية الكنائس والديانة المسيحية وتسليم أغلب القلاع الساحلية للاسبان لطرد خيرالدين بربروس منها، وتحصين ميناء حلق الوادي ومنح صلوحيات واسعة للقنصل الاسباني للبت في المسائل التجارية والتصدي للغزو البحري المعادي للاسبان. وابتداء من تلك الحقبة تواصل التوتر بين الاسبان والعثمانيين، كي ينفجر الصراع على أشده من جديد بعد نحو أربعين سنة، وانتهى هذه المرة بتغييرالغزاة ، إذ عوض العثمانيون الاسبان .

لا شكّ  أن  جيش إفريقية  كان   بريّا أكثر منه بحريّا . وقد أضحت البحرية  في موقع  الضعف  ابتداء من القرن  الرابع  عشر ، مما ساعد على  ازدياد  عمليات القرصنة والقطع  في مياهها .أما الجيش البري ، فقد تنوّعت  تركيبته وأصوله وظلّت أهدافه ضبابية، إذ  كثيرا ما وجّه  أعنّة فرسانه  صوب القرى والمدن القبائل ، ممّا  ترجم عن عمق المعضلة في أواخر العهد الحفصي ، وعن التداعيات السياسية والاضطرابات الاجتماعية التي تعزى إلى عوامل خارجية وأخرى داخلية ، إذ انتظمت وقتذاك مبادلات اقتصادية غير متكافئة بين الغرب الأوروبي وبلاد المغرب، تمثلت في هيمنة البحرية الأوروبية على الملاحة في البحر المتوسط وفي تصدير مدن المغرب المواد الأولية من صوف وجلود وذهب وملح مقابل استيرادها مصنوعات جنوة والبندقيّة وبرشلونة. 

 

 

 

 

قائمة المصادر والمراجع :

 

الأبيّ (محمّد) ـ إكمال إكمال المعلم ، القاهرة 1910 .

ـ ابن عبد الباسط ـ الرّوض الباسط ، مخطوط الفاتيكان ، 729 .

– البرزلي ( أبو القاسم) – جامع مسائل الأحكام ، مخ 4851 ـ 5371 ـ 5372 ـ 5429 ـ 5430

– ابن الدباغ (أبو زيد عبد الرحمان) – الأسرار الجلية في المناقب الدهمانية  ، مخ 17944 .

– ابن راشد القفصي (محمد)- الفائق في معرفة الأحكام والوثائق ،مخ 6150ـ 6151 ـ 6152 ـ 6153 ـ 6154 ـ 6117 .

ابن الأبار ( أبو عبد الله محمد) – الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ،

1985  .

– ابن الأثير (أبو الحسن علي) – الكامل في التاريخ ، دار الفكر ، بيروت 1978 .

– التجاني (عبد الله) – الرحلة ، الدار العربية للكتاب ، ليبيا ـ تونس ، 1981 .

– ابن خلدون ( عبد الرحمان) – كتاب العبر ، 7 أجزاء ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت 1983 .

– ابن أبي زرع (علي) – الأنيس المطرب بروض القرطاس في تاريخ المغرب ومدينة فاس، الرباط ( در المنصور) 1972 .

– الزركشي ( أبو عبد الله محمد) – تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية ، تحقيق محمد ماضور ، تونس 1966 .

– ابن الشماع (أبو عبد الله محمد) – الأدلة البينة النورانية في مفاخر الدولة الحفصية ، تحقيق الطاهر المعموري ، تونس 1984 .

– ابن عذاري- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، الجزء الموحدي، تحقيق الكتاني وزنيبر وابن تاويت وزمامة، الدار البيضاء 1985  .

ابن قنفد (أ[و العباس أحمد) – الفارسيّة ، تحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي، تونس 1968 .

ابن ناجي (أبو الفضل أبو القاسم ) – معالم الايمان في معرفة أهل القيروان ، 4 أجزاء ، تونس 1990 .

الوزّان (الحسن) – وصف إفريقيا ، تحقيق محمد الأخضر ومحمد حجّي ، الرباط 1982 .

المراجـــع :

– الجابري (محمد عابد) – العصبية والدولة ، الرباط ، 1982 .

– حسن (محمد)- الجغرافية التّاريخية لإفريقيّة في العصر الوسيط ، بيروت 2003 .

– حسن (محمد)- المدينة والبادية بافريقية في العهد الحفصي . جزءان تونس 1999 .

– الطالبي (محمد)- دراسات في تاريخ افريقية وحضارتها، تونس 1982 .

– Alarcon, Documentos Arabes del Archivo de la corona de Aragon, Madrid , 1940 .

– Brunschvig. R, La Berbérie Orientale sous les Hafsides, 2T, Alger-Paris 1940.

– Dhina , A., Le royaume Abdelouadide à l’époque dAbu Hammou Moussa et

 dAbou Tachfin, Alger, s.d.

–                                   Dufourcq, LEspagne Catalane et le Maghreb au XIII et XIVeme s. Paris1966.

– Djelloul, N . , Les fortifications côtières  ottomanes de la Régence de Tunis, Zaghouan,1995 .

– Kably, M., Societé, pouvoir et religion au Maroc à la fin du moyen-âge, Paris 1986.

G.Marçais, Les Arabes en Berbérie du XI au XIV eme s., Constantine- Paris 1913 .

Top