الجيش الروماني بالبلاد التونسيّة

يرتكز الحضور العسكري الإفريقي في العهد الرّوماني على نقطتين :

– المجال العسكري

–         الجيوش

هذه الجيوش التي تتكوّن من قوّاد وعساكر تمثّل جيشا وطنيّا بأتمّ معنى الكلمة نظرا لأنّ السلطة الإمبراطوريّة كانت حريصة على أن تطوّع هذه الجيوش لخدمة المصلحة العامّة ولخدمة الأمن والاستقرار بالمناطق التي يتواجدون بها.

إنّ الجيش الروماني الإفريقي بالبلاد التونسيّة متكوّن من قوّاد وعساكر، مشاة، خيّالة أو رماة كانت لهم مهمّة أساسيّة تتمثّل في مراقبة وحماية المجال الروماني المعزول والبعيد جدّا عن مركز السلطة أي مدينة روما.

لكن أصبح جلّ المختصّين يعتقدون اعتقادا جازما بأنّ الجيش كان يلعب أدوار أخرى إلى جانب الدور العسكري.

لذا لا يمكن التعرّض اليوم إلى الحياة السياسيّة، الحياة الاقتصاديّة، الحياة الاجتماعيّة، الثقافيّة و الدينيّة دون الأخذ بعين الاعتبار لمشاركة الجيش فيها.

من البديهي اليوم أن نعتبر كذلك أن المناطق العسكريّة بشمال إفريقيا كانت تمثّل مناطق إستقرار كبرى كما كانت أكثر المناطق رومنة وانصهارا في الحضارة الرّومانيّة بفضل ما ركّزه الجيش من روابط جيّدة مع المدنيين المستقرّين بتلك المناطق.

إنّ المختصّين أصبحوا يعترفون أكثر فأكثر بالدّور الهامّ الذي لعبته الجيوش الرومانيّة الإفريقيّة بالبلاد التونسيّة.

في بداية فترة الرومنة كانت الجيوش الرومانيّة بإفريقيا تعدّ عددا ضئيلا من الجنود من أصل إفريقي. لكن بداية من القرن الثاني ميلادي أصبح الانتداب يشمل تدريجيّا الأفارقة لاسيّما عندما تضاعف عدد الفرق العسكريّة المساعدة والتي تتكوّن أساسا من جنود من أصل إفريقي.

اعتمادا على هذا المعطى التاريخي أصبح الجيش الرّوماني الإفريقي جيشا وطنيّا نظرا لأنّه يعتمد أكثر فأكثر على أبناء المقاطعة للدّفاع عنها وخدمتها.

 

I – I  لمجال العسكري

تركّز المجال العسكري الروماني-الإفريقي بالمناطق الجنوبيّة بصفة عامّة وهي في جلّها مناطق صحراويّة.

يتكوّن المجال العسكري الرّوماني الإفريقي من منظومتين تمثّلان في النهاية مناطق حدوديّة :

– المنظومة الدّفاعيّة للجنوب النوميدي

–         المنظومة الدّفاعيّة التريبوليتانيّة

قامت السّلطة الإمبراطوريّة بتركيز هاتين المنظومتين حسب مراحل انطلقت منذ حكم الإمبراطور Nerva وصولا إلى الفترة السيويريّةLes sévères  .

تعرف هذه المناطق الحدوديّة الدفاعيّة باللّيماس Le limes.

 آخر هذه المناطق هي منطقة اللّيماس التريبوليتاني وتمتدّ من الجنوب التونسي (شطّ الجريد) إلى الشرق الليبي.

تمسح 1000 كلم انطلاقا من الجريد التونسي Turris Tamelleni إلى حدود القرنة Cyrénaïque القديمة.

ويتكوّن اللّيماس التريبوليتاني في جزئه الغربي أي الجنوب التونسي من خطّ متواصل ومتّسع في عمق الصّحراء ومن مجموعة معسكرات صغيرة مهمّتها المراقبة والدّفاع عن الواحات ومواقع الاستقرار مثل بلاد نفزاوة، قابس (تكابس Tacapes) وكامل منطقة الجفارة التونسيّة وفي عمق الصّحراء ركّز الرّومان مواقع محصّنة مثل معسكر قصر غيلان.

أمّا أقدم هذه المواقع الدّفاعيّة ونقطة انطلاقها فهي منظومة السّباسب والتي امتدّت فيما بعد إلى الجنوب التونسي (القرنIII   IV -م). هي منظمومة يوليو كلاوديّة (القرن الأوّل ميلادي). يتوزّع جيوش هذه المنظومة الدّفاعيّة على عدّة مواقع لكن أهمّها وأشهرها تاريخيّا هو موقع حيدرة أميدرة Ammaedara هذا المعسكر أقامت فيه أولى الجيوش الرومانيّة الإفريقيّة بعد سقوط قرطاج وهو المعسكر الأوّل للفيلق الثالث الأغسطي (La IIIè Légion Auguste)

حيدرة كانت إذا أوّل مركز للمنظومة العسكريّة التي أرستها روما بإفريقيا ما بين سنة 6 ميلادي و75 ميلادي.

ابتداء من 235 ميلادي أصبح النظام الدفاعي الإفريقي يرتكز أكثر على المناطق الدفاعيّة الطوليّة عوضا عن المراكز.

القرنين الثالث والرابع ميلادي تميّزا بتدعيم المنظومة الدّفاعيّة التريبوليتانيّة ما يسمّى باللّيماس.

 – 1المواقع العسكريّة المتأكّدة :

 *مواقع منطقة السباسب التونسيّة

حيدرة Ammaedara وتلبت Thelepte

–   حيدرة : المعسكر الأوّل للفيلق الثالث الأغسطي وقع نقله سنة 75 م بأمر من الإمبراطور Vespasien إلى مدينة تبسّة بالجزائر وبالتالي تحوّلت حيدرة إلى مدينة مدنيّة يعمّرها الجيوش القدامى الذين اختاروا الاستقرار بالجهة وسرعان ما ارتقت المدينة إلى معمّرة رومانيّة وهي أعلى المراتب في السّلم المدني الروماني بالمقاطعات.

–   تلبت : أصبحت معسكرا على إثر انتقال الفيلق الثالث الى تبسّة في 75 م نظرا للموقع الاستراتيجي الذي تتمتّع به.

المواقع العسكريّة الحدوديّة بالجنوب التونسي :

أ – حامّة قابس : Aquae Tacapitane

ب – تلمين : Turris Tamalleni

ج – رأس العين :Talalati / Tlalet  

د – قصر غيلان : Tisauar

هـ – قصر ترصين : Centenarium Tibubuci 

و – هنشير القصيرات (مطماطة) :Turris Malihorum Areliorum

ز- سيدي محمّد بن عيسى :Vezereos

ك – بير أمّ علي :Bir Oum Ali

وهو بدون شكّ معسكر لإحدى الفرق الإفريقيّة المتكوّنة من أجانب Iere Cohorte chalcidénienne ما بين 163-164 م.

وقد عثر الأثريّون الأوائل بهذا الموقع على بقايا أثريّة عسكريّة منها : مذبح قرابين مخصّص إلى آلهة المعسكرات : آلهة “الانضباط”la Discipline  كما وجد مذبح قرابين إلى الإله جوبيتار Jupiter .

 – IIالجيوش : Les hommes

1-     أهمّ الفرق العسكريّة الرومانيّة بإفريقيا

يعتبر الفيلق الثالث الأغسطي بمثابة العمود الفقري للجيش الروماني الإفريقي. هو فيلق ضخم متكوّن من ما يقارب خمسة آلاف مشاة من بين المتألّقين.

إلى حدود القرن الأوّل من العهد الإمبراطوري كانت توجد فرق أقلّ أهميّة تساند الفيلق الثالث ونذكر منها الفيلق الثاني عشر أو الفيلق التاسع الاسباني وهي جيوش تعتمد في أغلبها على فرق الطوارئ وليس على الجيوش القارّة.

إنّ من أهمّ مميّزات الجيش الروماني منذ إنشاءه هو الانتقاء والتمييز الاجتماعي عند الانتداب لكن منذ العهد الأغسطي أصبحت تعطي الأولويّة للتطوّع. هذه الرؤيا الجديدة والنظرة التحديثيّة في صفوف الجيش فرضها في حقيقة الأمر الواقع الجديد للإمبراطوريّة والمتمثّل خاصّة في الامتداد الجغرافي الهام ممّا أجبر السّلطات الإمبراطوريّة على تكثيف ومضاعفة عدد الجنود في كامل أنحاء المقاطعات.

لكن يمكن اعتبار فترة الامبراطور ديوكلسيان Dioclétien هي فترة أهمّ الإصلاحات داخل الجيش الروماني الإفريقي. تمثّلت هذه الإصلاحات خاصّة في ادخال مبدأ الوراثة كشرط من شروط الانتداب العسكري.

كما أجبر الإمبراطور Dioclétienكبار الفلاّحين والمالكين على دفع مبالغ ماليّة لتعويض عدم مشاركتهم في الخدمة العسكريّة. أمّا الإصلاح الأكثر أهميّة فهو تشجيع أكثر ما يمكن من سكّان البلاد في المشاركة والاندماج في الصفوف العسكريّة ممّا سيضفي تدريجيّا على هذه القوّات والفرق الرّومانيّة المتواجدة بشمال إفريقيا الطّابع المحلّي أو إن شئنا الوطني البحت شيئا فشيئا تطوّر عطاء الجيش الإفريقي وأصبح يوفّر جنودا محنّكين لفائدة مقاطعات رومانيّة أخرى.

إذ نجد جنودا من أصل إفريقي في روما أو في صفوف البحريّة الرومانيّة. تحدّث المؤرّخون كذلك عن “أفارقة” مشاة وبحريّة من أصل إفريقي منحدرون من قبائل “الجداليين” و”المزالمة” (Gétules et musulames  ).

 – 2مواقع تمركز مختلف الفرق العسكريّة

–   تركّز الفيلق الثالث الأغسطي منذ تأسيسه في القرن الأوّل ميلادي في معسكر حيدرة وكان ينظّم كلّ تدخّلاته العسكريّة بكامل البلاد الإفريقيّة انطلاقا من ذلك المعسكر.

–         توزر الحاليّة : Vezereos كان مقرّ معسكر جيوش الطوارئ خلال القرن الثاني ميلادي.

–         رمادة : كان يوجد بها معسكر لنفس الفريق الثاني الإفريقي خلال القرن الأوّل ميلادي.

–         سيدي عون : مقرّ معسكر فريق طوارئ والفريق الثاني الإفريقي سنة 198 م.

–         بير أم علي :  مقرّ معسكر الفريق الأوّل  الشرقي بين 163-164 م .

إنّ المناطق والمواقع الحدوديّة في مفهومها الأصلي هي مناطق عسكريّة بدون منازع وكلّ منطقة عسكريّة تعتبر بالأساس منطقة مراقبة ودفاع تتطلّب حضور عدد كثيف وقارّ من الجيوش.

لكن تجدر الملاحظة إلى أنّ المناطق الحدوديّة العسكريّة الإفريقيّة هي مناطق لم يعرف تاريخها حروبا متتالية وشديدة الخطورة أو متواصلة وبالتالي فإنّ فترات الهدوء والسلم كانت تغلب عليها ممّا نتج عنه انقلاب الطابع الأصلي لهذه المناطق فأصبحت أكثر فأكثر مناطق تواصل حضاري ثقافي بين الجيوش المختلفة الجنسيّات وبين المدنيين، السكّان الأصليين لهذه الحدود العسكريّة.

هذا وقد أثبت التاريخ أنّ الحضور العسكري في منطقة ما عادة ما يخلق حركيّة وتجدّدا في جلّ المناطق التي يستقرّ بها. من ذلك الحركيّة الديمغرافيّة والحركيّة الاقتصاديّة نظرا لأنّ المعسكرات والمواقع الدفاعيّة سرعان ما تنقلب إلى أسواق في فترات السلم حيث أنّها تعتبر مراكز إنتاج فلاحي وحرفي.

نأخذ مثال المناطق الحدوديّة الصحراويّة أو الجنوبيّة بإفريقيا وهو ما يعرف بمناطق الليماس. إنّ تركيز هذه المنظومة الدفاعيّة الحدوديّة ساهم في تشجيع المدنيين على الاستقرار والتركّز بحثا عن الأمن والاندماج ممّا نتج عنه نشاط هذه المناطق الصحراويّة وتعميرها.

 – IIIالدّور الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي  للجيش الإفريقي

لقد خلق وجود الجيوش ظروفا مناسبة للتطوّر الاقتصادي والاستقرار. أوّل ميزة لهذه المناطق تتمثّل في نشر السلم والأمن.

كذلك يعتبر الجيش أوّل منجز ومنفّذ للمشاريع الكبرى بالمناطق النائية والغير محظوظة: انجاز الطرقات، حفر الآبار، إقامة الجسور…

كما لاحظنا أنّ الجيش هو أوّل مؤسّس ومنتج اقتصادي فهو في الحال نفسه أوّل مستهلك. ونؤكّد هنا على أنّ الجيش الإفريقي في الفترة الرومانيّة كان يتقاضى أجرا مرتفعا مقابل الخدمة العسكريّة وبالتالي فإنّه لا يتردّد في إنفاق أموال طائلة في مشترياته.

كان العساكر يقومون بأنشطة اقتصاديّة إضافيّة، كأن يستوردوا بضائع من كامل أنحاء الإمبراطوريّة ويسوّقون فائض منتوجهم الفلاحي والحرفي. كما كان بإمكان الجيوش أن يحوّلوا ما يتبقّى من أجورهم المرتفعة إلى قروض ينتفع منها المدنيّون المحيطون بهم مقابل فوائض طبعا.

1- الجيش الإفريقي والرّومنة

لقد لاحظ المؤرّخون والمختصّون وجود علاقة وطيدة بين الحضور العسكري ورومنة البلاد الإفريقيّة. لقد ساهم الجيش الروماني الإفريقي بشكل واضح في تغيير العقليّات وطرق العيش في شمال إفريقيا. أحسن مثال على ذلك هي المناطق الحدوديّة الجنوبيّة والنائية، هذه المناطق لم يكن لها أن تعرف ما عرفته من تطوّر عمراني وديمغرافي واقتصادي وما عرفته من اندماج في الحضارة الرومانيّة لولا الدّور الذي لعبته فيها الجيوش المستقرّة بها.

وقد لاحظنا في دراسة قمنا بها أنّه كلّما توفّر الوجود العسكري في منطقة ما حتّى وإن كانت مهجورة سابقا إلاّ وتكاثف فيها تواجد السكّان المدنيين وارتفع فيها مستوى الاندماج في الثقافة اللاّتينيّة.

لقد تجاوز دور الجيش الإفريقي الدور التقليدي المعروف عن الجيش أي الخدمة العسكريّة والدّور الدفاعي أو دور الاحتلال الترابي.

كان للجيش الإفريقي بإفريقيا ثلاث مهام أساسيّة :

أ – مراقبة القبائل الرحّل وشبه الرحّل المتواجدة في جنوب المناطق الحدوديّة لا سيّما قبائل الجنوب التونسي.

ب- دور اقتصادي وذلك بتعويض المراعي التي تمثّل خطر على أمن المستقرّين بمناطق لتربية الأبقار ولغراسة الأشجار المربحة خاصّة الزياتين.

ج- مهمّة حماية المستقرّين الأوائل بالمناطق الحدوديّة.

2- حركات التنقّل والاستقرار داخل المناطق العسكريّة

لقد واجهت الجيوش الإفريقيّة مناطق صحراويّة جافّة في الحدود الجنوبيّة لا سيّما على مستوى اللّيماس التريبوليتاني الغربي (الجنوب التونسي). وقد كان الجيش مجبرا على تحدّي هذه الصّعوبات الطّبيعيّة بإقامة أشغال كبرى لإنجاز معالم مائيّة مثل الجسور والآبار.

وقد ساهم هذا التدخّل العسكري في تغيير المشهد العامّ على مستوى البنى الأساسيّة لهذه المناطق.

 

أحدث أيضا فوارق جديدة على مستوى طرق الانتاج والعيش بين الرحّل والمستقرّين كذلك بين السكّان المدنيين والجيوش. نأخذ مثال للمناطق المجاورة لمعسكر “بير أم علي”.

نلاحظ تغيّرا كلّي على مستوى الانجازات (معلم مائي ضخم ومهيمن على المشهد الطبيعي ككل : انظر الصورة) إضافة إلى أنّ وجود الفريق الأوّل الشرقي المتكوّن من الفرسان ساهم في نشر الثقافة الرّومانيّة  بالجهة، كما عمد بعض العساكر المتقاعدين إلى الاستقرار بنفس المنطقة ومصاهرة السكان الأصليين. حتّى أنّ جلّ السكّان أصبحوا يحملون أسماء وألقاب رومانيّة رغم أصلهم الإفريقي.

لقد ساهم الجيش الإفريقي كذلك في إقرار بعض الجاليات الأجنبيّة بمناطق عسكريّة إفريقيّة. أهمّ إستقرار هو استقرار جالية سوريّة بشمال إفريقيا عن طريق الحضور العسكري خاصّة. يبلغ عدد الفرق العسكريّة السوريّة بالجيش الإفريقي ستّة فرق تحتوي إجمالا على ألفين أو ثلاثة آلاف جندي. وقد كانت الفرق السوريّة توفّر للجيش الإفريقي خاصّة الماهرين من الرماة وهو الاختصاص السّائد لديهم.

إلى جانب الجيوش الوافدة من سوريا استقرّت بإفريقيا فئات اجتماعيّة أخرى من نفس الأصل لا سيّما فئة من التجّار.

أمّا الانتماءات الجغرافيّة الأخرى المستقرّة بإفريقيا فهي متنوّعة لكن لسنا متأكّدين من عددها أو من طبيعة حضورها خارج إطار الخدمة العسكريّة.

 

Top