الجيش والبحرية في العهدين الفاطمي والزيري

الجيش الفاطمي: 

كانت نواة هذا الجيش الأولى متكونة من أفراد قبائل كتامة التي اعتمد عليها أبو عبد الله الشيعي في تقويض الدولة الأغلبية. وقد لعب دورا أساسيا في إخماد الثورات الداخلية وتدعيم السياسة التوسعية للفواطم. وإلى جانب العساكر البرية والبحرية أحدث العبيديون منذ عهد المهدي نظام استخبارات عسكرية محكم يديره خبراء ديواني الكشف والبريد. وكانت قوصرة والمهدية أهم مراكز الحمام الزاجل الذي يؤمن المراسلات بين سفن الأسطول والقواعد العسكرية.

العساكر البربرية – الصقلبيّة:

     كان الجيش الفاطمي جيش أنصار إذ كان الكتاميون، أو “الأولياء” كما تنعتهم المصادر الشيعية، عموده الفقري والعنصر المتفوق داخله. ويذكر القاضي النعمان  أن عسكر القائم كان يعدّ 70.000 مقاتل ينتمي 50000  منهم إلى هذا القبيل البربري.

     وكان الروافض الأوائل في حاجة إلى عصبية يستندون عليها في توطيد أركان حكمهم فاعتمدوا منذ خلافة المهدي على بربر القبائل الصغرى وعهدوا لقبائل سكتان وجملة ولهيصة وملوسة ومطوسة بالقيادات الهامة وحبوها بأهم الإقطاعات وأعلى الرواتب. وبهذا حوّلوا هؤلاء البرابرة المغمورين من مزارعين إلى بناة إمبراطورية ضخمة. وقد تواصل هذا الدور القيادي إلى نهاية الفترة الإفريقية. وتذكرا المصادر أن جوهر توجه قبل حملة مصر إلى بلاد كتامة لحشد الجند والمتطوعة. وقد أكد ابن خلدون على دور الإيديولوجية الإسماعيلية في هذا التحول وأشاد بتماسك عصبية كتامة وخصالها القتالية الاستثنائية. وسطع نجم جيرانهم من البربر، خاصة صنهاجة وزواوة، لما أنهكت الحملات شرقا وغربا قوى كتائب كتامة وأبعدها فتح مصر عن أوطانها.

     كان الصقالبة أيضا ” سيف الدولة” ومواليها وأنصار الساعة الأولى. وكانوا منذ خلافة المهدي يمثلون نخبة عسكرية محترفة متمرسة بأساليب القتال يعهد إليها بتأطير الكتائب إبان الغزوات والقيام بأعمال التقويض والهدم الشاقة أوقات الحصار. ومنهم كان الخليفة ينتقي حرسه الخاص وحاميته خلال المعارك، ويعود لقوادهم شرف حمل المظلة شارة الحكم ورمز الإمامة. ويقع جلب هؤلاء المقاتلين من بلاد البلقان ومنطقة الفولجا ) حيث يتولى جيرانهم من البلغار بيعهم ( ومن البندقية. وإلى جانب الصقالبة من الموالي نجد صقالبة من المماليك يحاربون على حدة بقيادة أحد أبناء جنسهم. وكانوا، مثل كتامة، تحدوهم روح العصبية والتضامن الجنسي لكن يمتازون عن البربر بانعزالهم داخل المجموعة الإفريقية وبأواصر الولاء المطلق التي تربطهم بشخص الخليفة وهو ما جعلهم يحتكرون أغلب القيادات منذ عهد المنصور.

     سطع نجم العديد من الضباط الصقالبة مثل ميسور الذي تمكن من فك الحصار الذي ضربه صاحب الحمار على المهدية. وكبّده الحسن بن رشيق الريحاني أمام سوسة  أولى هزائمه وكسب بشرى وقدام معركتي القيروان وباب سلم ومهّدا الطريق لانتصار صبرة. وأمّن قيصر ومظفر فيما بعد مناطق الزاب والأوراس فأسند لهما المنصور شؤون مقاطعات طرابلس وبغاية.

     ويعتبر جوهر الصقلبي الكاتب أعظم قائد عسكري عرفه الفاطميون والمغرب العربي في العصر الوسيط. فقد لفتت إليه حنكته الأنظار منذ عهد المنصور وأصبح زمن خلافة المعز “وزيرا للجيش” ورمزا لنجاحاته الحربية فأنزله هذا الأخير منزلة خاصة وأمّره على أسياد كتامة وصنهاجة وبني حمدون. وقد حفظت لنا الحوليات الشيعية والسنية أخبار حملته المغربية الأولى التي دامت سنتين ) 958 – 960 م ( حيث انطلق من رقادة على رأس جيش غفير فأجتاز المغرب الأوسط وقضى على فتنة يعلي اليفرني، ثم توجه إلى فاس ومنها إلى سجلماسة حيث أنهى تمرد ابن واسول وضرب عملة جديدة ومنها عاد إلى قاعدة الأدارسة فأمنها وترك على رأسها قائدا فاطميّا وبعث للمعز بجرار تحتوي على عدة أصناف من حيتان الأطلسي ثم قفل راجعا إلى صبرة ) 960 م ( بعد أن مهّد الطريق أمام غزو الأندلس. وفي سنة 968 م قاد حملة ثانية مظفرة ضد بربر التافليلات وقبلها بثلاث سنوات بدأ في الإعداد لغزو مصر.

     استغرق فتح مصر ) 969 م ( مدة قياسية لا تتعدى أربعة أشهر ذلك أن جوهرا أمن لها باكرا كل مقومات النجاح، فقام بحشد 100.000 مقاتل وأعد 1000 صندوق من الذهب ) 24000000 دينار ( وأمر عامل طرابلس بحفر الآبار وتشييد الإستراحات على طول الطريق الصحراوي الرابط بين الإسكندرية ورقادة. ومن القاهرة وجه كتائب كتامة لفتح فلسطين وسورية ) 970 م (.

     ويمثل العبيد الزويليون السود المجموعة العرقية الثالثة وينسبون إلى زويلة قاعدة إقليم فزّان. وكانوا يؤلفون داخل الجيش الفاطمي فيلقا خاصا من المشاة بقيادة واحد من أبناء جنسهم. وقد برزوا منذ خلافة المهدي وشاركت إحدى فرقهم في الحملة الأولى على مصر سنة 914 م حيث أبلت البلاء الحسن قبل أن ينكّل بها القائد العباسي مؤنس. وأشاد النعمان بجلد وصبر الزويليين الذين كانوا يشكلون في عهد المنصور عدّة فرق من المشاة الممتازة التي تتحمّل وطأ المصادمات مع خيالة العدو ويعهد إليها بأعمال الحصار الشاقة والخطرة مثل تسلق الأسوار وهدمها.

     كان للعنصر العربي ) أهل إفريقية ( بعض الأهمية أيام المهدي والقائم، وقد شاركت أجناد برقة وطرابلس في الحملات المصرية الأولى وساهم جند ميلة في تأمين بلاد الزاب. وينتمي إلى هذه الأجناد بنو حنزير وبنو حمدون وكذلك العائلة الكلبية بصقلية التي كانت لها اليد العليا على شؤون البحرية الفاطمية. وقد تراجع دور العرب بداية من عهد المنصور لحساب الصقالبة وبني زيري.

     وكان خلفاء المهدية يسهرون على تضامن عناصر هذا الجند ودرء التناقضات العرقية داخله. فبعد فتحه لدمشق قام القائد الكتامي جعفر بن فلح بإرسال البريد إلى صبرة فأرجعه المعز وأمره بمكاتبته عن طريق جوهر القائد الأعلى للحملة.

     القيادة والعمليات الحربية:

     كانت قيادة الجيش من مشمولات الخليفة وقد قام المنصور بملاحقة أبي يزيد. وكان غالبا ما يعهد بهذه المهمة لولي العهد أو لأحد قواد الصقالبة. وتتألف القيادة العليا من ثلاثة ضباط كبار: قائد الأعنّة ) الخيالة (، قائد المشاة ومقدم الأسطول     ) متوكل البحر(، أما الوحدة الرئيسية فقد كانت العرافة ) على رأسها عريف (. وقد قسمّ الداعي عساكره منذ فترة إيكجان إلى سبعة أصابع )فيالق ( تحت قيادة مقدم أو شيخ . وذكر إبن عذاري أن الجيش الذي إحتل رقادة كان مؤلفا من من سبعة أصابع تعد 30.000 مقاتل. وقد تواصل العمل بهذا النظام في العهد الحفصي إذ أصبح رقم سبعة المقدّس لدى الشيعة السبعية طالع خير لدى كل شعوب المغرب. وكان الكتاميون في آن واحد جيش أنصار وجيشا محترفا موزعا على عدة أجناد يتمتعون، عدا الإقطاعات، بجراية شهرية ) رزق، 500 إلى 1000 دينار(، يشرف على توزيعها ديوان الجند الذي يديره قائد من بني جلدتهم ويضمّ ثلاثة أقسام: قسم الأجناد، قسم الإقطاعات وقسم الرواتب.

     وقبل كل حملة يتوجه ” قائد حاشد” إلى القبائل الصغرى ) دار الهجرة ( لتجنيد المقاتلين ثم يقع تجميعهم وتأطيرهم برقادة أو المهدية. وتزود كل كتيبة براية خاصة. وتكون راية المقدم وخيمته خلال الحملات التأديبية حمراء. كانت الفيالق تتقدم حسب نظام معين وبنسق ملائم للمشاة ) حوالي 30 كلم في اليوم (. متبوعة بأمتعتها المشتملة على خيامها وآلاتها الحربية ) الأثقال( التي تحملها البغال والجمال ضمن كوكبة المؤخرة  ) الساقة(. وعني الفواطم عناية خاصة بتأمين خطوط التموين التي غالبا ما كانت تحدد مصير المعارك. وكان الجنود يحملون معهم أيضا بعض المواد الغذائية الضرورية في مخالي الخيل أو الجراب ) جبن، بصل، لحوم مقددة(. وجهز جوهر قبل حملة مصر سروج الخيل بقرابيص بطنها من صفائح قصدير لخزن المياه.

     وكانت الخيالة التي تعتبر أهم قوة خلال المعارك تغلب على الجيش الفاطمي ويتقاضى أفرادها ضعف جرايات المشاة. وقد اشتهر الكتاميون منذ القديم بحذقهم للفروسية إذ تعودوا منذ الصغر على القتال على صهوة جيادهم المتحركة والسريعة المجهزة بالسروج العالية والركب القصيرة. وكانوا خلافا لفرسان النصارى لا يترجلون لخوض المعارك مما يعطي لهذه الكتائب كثيرا من الحركية. ويتكون سلاح الفارس عادة من رمح للطعان وسيف للجلاد ودرقة. وذكر ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات أن المطية ” كانت تكسى بالتجاذيف من جلود السباع للتهيب بها”. ولحمايتها من النيران تغطى بأكسية مبطنة باللبود المطلية بطلاء مصنوع من الصمغ والمغرة والبيض والخلّ.

     وكانت كتائب المشاة المجهزة بالسيوف والرماح والدرقات تتحمل وطأة الالتحام مع فرسان العدو في ساحة الوغى. وتذكر رسائل جوذر أن الجيش الفاطمي كان يملك فرقا خاصة من القوّاسين وأخرى مختصة في القتال بواسطة القذافات والمجانيق والدبابات.

     الخطة القتالية: 

     تحولت الحرب في العهد الفاطمي إلى حرب مواقع وأصبحت الخطة القتالية ) تعبئة الزحف( تتمثل في جملة من العمليات المعقدة. يقوم القائد قبل كل شيء باختيار موقع معسكره في مكان محصن بحفير دفاعي يحميه الحسك الشائك المصنوع من الخشب والحديد      )  barbelé . ( ومنه يمكنه مراقبة العدو أو إخراجه من مكامنه. وحشد جوهر جيوشه في موقع يحميه غربا وشرقا النيل وجبل المقطم حصنه بخنادق عميقة ومتتالية. وتعتمد العمليات التي توجه حركتها الخيالة على عادة الكر والفر كما يقع جر العدو إلى ميدان معين والقيام ببعض المناورات والتحركات الدائرية لأخذه من الخلف أو محاصرته.

     ويقع تقسيم العساكر أثناء المعارك إلى خمسة أجنحة: الطليعة ) المقدمة(، القلب، الميمنة، الميسرة والساقة ) المؤخرة(. وخلال حملة 315 هـ جعل القائم القلب مؤلفا من جملة والميسرة من أجانة وجند إفريقية والميمنة من ملوسة الساقة من لهيصة. وفي موقعة مقرة دعم المنصور قلبه بكتامة والصقالبة وجند برقة وأوكل قيادة الميمنة لجعفر بن علي وبشرى       ) لهيصة، جند المسيلة والصقالبة( في حين كانت الميمنة مؤلفة من جند الجزيرة ) الوطن القبلي(.

     وتتكون الطليعة عادة من الفرسان ويكمن دورها في القيام بعمليات الكشف والمناوشة والمهمات البعيدة عن موقع القسم الأكبر من العسكر مثل تتبع الفارين. وتنطلق الخيالة من الميمنة ومن الميسرة للقيام بالهجمات المباغتة والمتكررة والإطباق على مشاة الخصم. أما الساقة فقد كانت تتألف غالبا من حشود الرجالة وكان دورها يتمثل في تأمين خطوط التموين وحماية مؤخرة الجيش لمنع عمليات المحاصرة. ويوجد وراء المقاتلين سد من الإبل يتخذ ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم ويمنع المشاة من الفرار وقت الشدة. وعندما تنفذ قرب المياه تنحر هذه البهائم لإستغلال مخزون المياه الموجود داخل معدها. ويقاتل القائد عادة ضمن الصف الثاني أي القلب ويتكون هذا الجناح من محور من المشاة والفرسان وجنائب من الخيالة الصقلبية الممتازة التي يمكن لها أن تصمد وتحرز على الانتصار بعد هزيمة الأجنحة الأخرى. وكان قواد الفواطم يلجؤون في بعض الأحيان لتكتيك “الكراديس” الذي شاع استعماله منذ العصر الأموي ويحوّرون باستمرار خطتهم القتالية خلال عمليات الحصار التي تلعب فيها كتائب المشاة دور هامّا. كما كانوا يعمدون إلى قطع طرق التموين المعادية ويحيطون القلاع والمدن المحاصرة بالخنادق       ) لمنع وصول الإمدادات( وإحراق المزروعات وطمس الآبار، كل ذلك لإنهاك العدو قبل الشروع في دك الأسوار بواسطة المجانيق والعرّادات.

 

     الأسلحة والآلات الحربية:  

     تؤكد سيرة جوذر أن أغلب الأسلحة المتداولة بإفريقية كانت تصنع بدور صناعة المهدية وسوسة وبلرم. وكانت تحفظ في خزائن خاصة مشيدة داخل القصور الفاطمية التي كانت تحتوي أيضا على مخازن للبنود والخيام والمؤونة يديرها أحد قواد الصقالبة. ورغم ندرة الوثائق المصورة فإن النصوص التاريخية والفقهية مثل مؤلفات القاضي النعمان والداعي إدريس وابن أبي زيد القيرواني تعج بالإشارات إلى عتاد العساكر واستعمالاته. كما ترك لنا مرضي بن علي بن مرضي الطرسوسي  ) ت. 583 هـ/ 1193 م( مؤلفا نظريا حول الأسلحة زمن صلاح الدين الأيوبي ) تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء(، وهي أسلحة كان أغلبها متداولا بالمغرب ومصر في العصر الفاطمي.

     وكانت الأسلحة الدفاعية من دروع وزرود معدنية وبيضات وغفارات معدنية كثيرة الانتشار وكان أهمها الترس ) bouclier ( وهو سلاح دفاعي يسمى في الغرب عادة بالدرقة يتخذ لحماية الجندي من النبال والرماح  والسيوف. ويستعمل الفارس الترس المستطيل لأن حجمه يمكنه من وقاية الأجزاء العليا من الجسم في حين يحتمي المشاة وراء درقة مستديرة تسهل انزلاق الرمح إذا أصابها.

     تدل تصاوير الحوانيت البروتوتاريخية أن التروس المعدنية كانت منتشرة بتونس منذ العهد البوني، وكان بعضها يصنع من خشب التين القابل للتمطط. على أن العهد الفاطمي شهد تطورا ملحوظا للدرقة اللمطية التي كان يحتمي بها المشاة والخيالة على حد السواء. وتتخذ من جلد اللمط وهو فصيلة من الأبقار الوحشية التي توجد مراعيها جنوب المغرب الأقصى. وذكر الأدريسي أن “لاشيء أبدع منها ولا أصلب منها ظهرا ولا أحسن منها صنعا وبها يقاتل أهل المغرب لحصانتها وخفة محملها.” وكانت هذه التروس تصنع بنول لمطة بالتافليلات وكذلك بالمهدية والقيروان حيث كان لقب الدراق )صانع الدرق( شائعا. وقد حفظت لنا جبّانة الجناح الأخضر بالقيروان قبرية ابن الدرّاق ) ت. 399 ه (. وكانت هذه المادة اللينة قابلة للزخرف والدرق تكسى بالزخارف الهندسية والنباتية. كما كانت تصدّر نحو أوروبا المسيحية حيث حافظت على تسميتها العربية ) Daraga الفرنسية (.

      أمّا الدرع ) Cuirasse ( فهي رداء يقي مرتديه من ضربات السيوف وطعنات الرماح ورشقات السهام. وكان حلمها يقتصر في العهد الأغلبي على القوّاد. ولكن الجندي الكتامي العادي أصبح في العصر الفاطمي يكسي جسمه بالدروع ويغطي رأسه بالخوذات. وتتكون الدرع الكاملة من الجوشن والخوذة والغفارة والسيقان والأكتف، وتصنع بعض أجزائها من جلد اللمط. ويقي الجوشن  الصدر والظهر وتغطي الغفارة ) من الزرد ( القلنسوة أو الخوذة ) البيضة ( المصنوعة من النحاس أو الحديد المثقوب.

     أما الكزاغندة ) ج. كزاغندات ( فكانت تحشى بالحرير والقطن وتلبس فوق الزردية. ويستدل من أشعار ابن هانئ أن هذا الرداء كان يزوق بأبيات من القريض يكسى بالزخارف النباتية والحيوانية.

     كان السيف والرمح أكثر الأسلحة الهجومية انتشارا ويعتبر السيف أشرف وأنبل أدوات القتال. ويمثل الحسام أو الصمصام سلاحا مستقيما، وقاطع غمده مصنوع من الخشب يحمله المشاة على الأكتاف ويضعه الفرسان تحت سيقانهم. وقد امتازت المهدية بجودة سيوفها المزخرفة ومنها المهند واليماني والإفريقي والدمشقي. وكان بعضها محدبا على شاكلة القلجوريات التركية.

     وكانت الرماح أيضا سلاح المشاة والخيالة على حد السواء، وهي بدورها متنوعة ومتعددة الاستعمالات إذ نجد الرماح الطويلة والرقيقة والحراب القصيرة. ويتخذ أجودها من شجر الدردار الأسود الثقيل وتزود بأسنة من حديد، ويشكل المزراق رمحا طويلا وقصيرا     ) لا يتجاوز طوله ثلاثة أذرع ( يمكن قذفه باتجاه العدو. وتكون الحرب والسمراء أطول وتصنع رماح القنا والقنطارية من شجر الزان أو من القصب المجلوب من الهند. وتمتاز السبربرات بأسنتها العراض، أما العترة   ) رمح صغير( فيلجأ إليه المشاة ساعة الالتحام مع العدو.

     وكان الخنجر كثير التداول، يشد على الذراع الأيسر ويوثق بخيط وفقا لعادة بربرية قديمة. وتذكر مصادر العصر عدة أنواع من الفؤوس، مثل الطبر واللتّ، ومن الدبابيس    ) الأعمدة ( الحديدية ذات الرؤوس المضرسة المدورة أو المضلّعة الملبسة بالكميخت والتي ينتفع بها في قتال لابس البيضة.  وكانت البلطة مخصصة لمشاة الحصار.

     أمّا القوس المعروف منذ القديم فهو مخصّص للمشاة ويستعمل خاصة إبان الحصار. وتمتاز عدّة المقاتل الكتامي بنشابها البرنزي المزخرف وسهامها المعدنية المثلثة. كما شاع استعمال القذافة اليدوية التي تقذف الحصى. وكان الرماة الأفارقة يوجهون سهامهم ثم يحتمون وهم جاثون أو ممددون على الأرض وراء درقاتهم التي يديرونها فوق رؤوسهم، وبعد ذلك ينهضون ويهاجمون العدو.

     خصّص ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات فصلا في ” رمي العدو بالنار والمجانيق” محددا بعض الشروط الأخلاقية والإنسانية عند استخدامها. وترك لنا صاحب ” رسائل الهند ” بابا ” في النفط وكيفية استعماله والوقاية منه”.

     ويستخدم المنجنيق عادة في مهاجمة الحصون والقلاع وينصب عندما يكون الجنود على مشارفها. وترمى بواسطة هذه الآلة القذائف الحجرية ) أو الرخامية( الضخمة وقدور النفط والكرات الملتهبة الحارقة. وتذكر مصادرنا عدة أنواع من المجانيق) العربى، الفارسي، الرومي، الإفريقي ( وتتألف كلها من عدة قوائم خشبية تتصل في أعلاها بعارضة بها ثقل عاكس يسمى الصندوق في حين تحمل الكفة المقذوف.

     ومن آلات الحصار أيضا العرّاضة ) العرادة( وقوس الزيار) لرمي الأوتار(. وتستخدم الدبابة لولوج المدن والمعاقل بعد إنهاكها ودك أسوارها، وهي عبارة عن برج خشبي متحرك يحتوي على قفص وتابوت وقد كانت ضمن عدة جيوش المنصور وجوهر. ويلجأ مشاة الحصار للتغلب على الاستحكامات الحجرية إلى الأكباش والكلاليب الضخمة والمتفجرات. ويستعمل المدافعون على الأسوار المجانيق والستائر وهي جلود ولبود وزرابي تبلل بالماء والخل لإضعاف مفعول القذائف المعادية. وينصب الجيش المحاصر داخل المدن عوارض وحواجز خشبية لمنع خيالة الغزاة من التنقل عبر الدروب.

عرفت الأسلحة النارية تطورا منقطع النظير في العهد الفاطمي وكانت أغلب قطع الأسطول مجهزة بالنار الإغريقية .

             ويعتمد هذا السلاح الفتاك على النفط وهو مزيج من الكبريت والكلس والراتنجات في شكل سائل يضاف إليه ملح البارود وهو معدن كانت توفره مناجم الجم وقفصة. وكان لقب القيار ) صانع الأسلحة النارية( شائعا بإفريقية وحفظت لنا كتب المناقب ذكرى أبو العباس بن القيار ) ت. 903 م(. ويرمى النفط بواسطة القدور أو قارورة النفط ) النفاطة، الزراقة( وهي أنبوب معدني يستعمل عن طريق ضغط الهواء في المؤخرة. كما شاع استعمال الرمّانات النارية ) قنبل متفجرة من الفخار(.

البحرية الفاطمية:

     كان الفواطم بدون منازع أكثر دول الإسلام اهتماما بشؤون البحر. وبلغت بحريتهم درجة هائلة من القوة والتقدم وساهمت بصفة فعالة في انجاح سياستهم التوسعية وتحقيق أطماعهم الترابية. وقد حرص المهدي منذ اعتلائه عرش رقادة على تطوير الأسطول الذي ورثه عن أسلافه الأغالبة فأحدث دور صناعة جديدة بالمهدية وقصر زياد. ومنذ هذه الفترة تميز العبيديون بسياسة عسكرية تعتمد الدعم البحري للحملات البرية وغلب هذا الطابع على القوات التي هاجمت مصر سنة 920 م كما ساهمت عمائر صقلية في حملة جوهر سنة 969 م.

     وتابع الفاطميون من بعد المهدي سياسته البحرية وأحدثوا دور صناعة جديدة بالخالصة ) بلرم( وطبرقة وقليبية ومرسى الخرز) القالة(. وفرض أسطولهم في عهد القائم سيطرة مطلقة على المتوسط وأصبح يهاجم باستمرار سواحل قلورية. وفي سنة 935 م تمكن من إحراق أهم قطع الأسطول البيزنطي في عرض البحر التيريني. وبعد سلسلة من الحملات المظفرة توصل الحسن بن علي الكلبي إلى فرض الحماية الفاطمية على قلورية وإجبار مبعوث القسطنطينية على التوجه إلى صبرة لإبرام الهدنة. وفي سنة 961 م سقطت تاورمينا في يد الفاطميين وأصبحت تدعى المعزية.

     كانت المهدية أهم قواعد أسطول إفريقية ومركز إقامة أميراله ) متولي البحر / رئيس البحر( وبها يوجد ديوان العمائر ) ديوان الجهاد( وكان أفراد العائلة الكلبية يتوارثون قيادة أسطول صقلية. وترك لنا القاضي النعمان وابن الطوير وصفا دقيقا لمراسم الغزو فبعد إكتمال تجهيز المراكب يتوجه الخليفة إلى دار البحر ويجلس في منظرتها لوداع الأسطول وتوزيع العطايا ثم تقلع المراكب وفق تشكيلة معينة يوجه حركتها الفانوس.

     تعددت قطع الأسطول الفاطمي التي وصفها أحسن وصف ابن هانئ ومعاصره الأيادي التونسي. ويمكن تصنيفها إلى سفن طويلة تستعمل القلوع والمجاذيف ومراكب مدوّرة تعتمد بصفة كلية على الرياح. وينتمي إلى الصنف الأول الشواني والحراقات والشلنديات والمسطحات والحربيات والعشاريات في حين يتألف الصنف الثاني خاصة من الطرائد والبطسات والجفنات.

     ويعتبر الشيني ) Galère ( أهم سفينة حربية. وكان يشكّل العمود الفقري للأسطول العبيدي. وتختلف أحجام هذا المركب الذي يسمى أيضا غراب )لأنه يطلى بالقار أسود( حسب عدد مجاذيفه، أجلّه يجره مائة وثمانون مجذافا ويحمل 200 مقاتل، أما الشيني العادي فقد كان مزودا بمائة وأربعين مجذافا وبثلاث صواري. ويمتاز هذا المركب بأبراجه التي تستخدم للدفاع والهجوم كما يحتوي على آلات النفط وعلى أهراء لخزن المؤونة وصهاريج للماء. ويوجد في مقدمته لجام من الحديد محدد الرأس كالسنان لنطح مراكب العدو واغراقها، ومن خصائصه أيضا أنه مزود بجسر من الخشب يهبط على الشواني المعادية ويمر على ظهره الجند للقتال بالأساليب البرية. وكانت المسطح   (Galéasse)تتسع لأكثر من 500 مقاتل. وكانت هذه القلعة العائمة والبطيئة تستعمل خلال المواجهات البحرية الكبرى. وتلي الشيني في الأهمية الحرّاقة أو الحربية ) Galiote ( التي يجرها مائة مجذاف وتستخدم لسرعتها الفائقة للرمي بالنفط. وكانت الحراقات الصغرى ) 10 مجاذف( والعشاريات ) 20 مجذافا( من لواحق الألواح الكبرى وزوارق الإنقاذ.

     تشكل البطسة أو البطشة ) Patache ( سفينة عظيمة الحجم عديدة القلوع    ) أكثر من أربعين( تتسع لأكثر من سبعمائة مقاتل تستخدم لنقل الأزواد والميرة وتشحن بها آلات الحرب وأدوات الحصار. وإلى هذا الصنف تنتمي القرقور ) Carraque (  والجفن ) Fut (. أما الغيطاني والعجزي فقد كانا مخصّصّين لحمل الجنود. وكانت الطريدة ) Tartane (  سفينة برسم الخيل )أكثر من أربعين (  وتفتح من الخلف حتي يتيسر للدواب أن تصعد على ظهرها أو تنزل منها إلى اليابسة.

 قاعدة المهدية: 

     تقع المهدية على الساحل الشرقي لإفريقية فوق شبه جزيرة صخرية تشرف على أهم معابر المتوسط إذ تسيطر على طريق المساحلة الرابطة بين الأندلس ومصر وطريق أعالي البحار )طريق الجزر(. وقد أثبتت ثورة صاحب الحمار )934 – 946 م ( حسن اختيار المهدية وسداد رأيه لم يكن عليه إلا أن يغلق البرزخ الضيق )175 م (  الفاصل بين البر وشبه الجزيرة ليجعل من هذه الهضبة ملجأ آمنا وحصنا منيعا لدولة شيعية شاءت الأقدار أن تنشأ في محيط يغلب عليه المذهب السني.

     استلهم جدّ الروافض عمران مدينته من تخطيط بغداد فجعلها مؤلفة من مدينة سلطانية )المهدية ( مخصصة للخليفة وعائلته وحاشيته ومدينة شعبية )زويلة( لسكنى العامة. وكانت المهدية مدينة ذات طابع عسكري وقلعة ضخمة لا تتصل بالعالم الخارجي إلا بواسطة باب وحيد وحصن موحّد محميّ بالأسوار المنيعة التي تساير الحدود الطبيعية للموقع، مستفيدة من محيطها البحري لتكوين مرسى داخلي يفتح لها بواسطة الأساطيل منفذا استراتيجيا للتموين في ظروف الحصار الطويل.  ونظرا لهذه الطبيعة فقد كانت المؤسسات البحرية تهيمن على المشهد الحضري.

     وتمتد المدينة على مجال جغرافي لا يتعدى طوله 1450 م يربط باب الفتوح )في الغرب(  بالميناء مرورا بالجامع الأعظم. وقد شيد هذا المعلم، تماما مثل دار البحر التي تجاوره، على أرض ردمت من البحر. وغير بعيد عن الميناء، توجد شرقيّ قصر عبيد الله المهدي دار الصناعة.

     وقد أثنى الجغرافيون العرب والرحالة الأوروبيون على استحكامات المهدية واعتبروها أمنع مدن المغرب. وتتألف التحصينات البرية )الغربية( التي تحمي المضيق من ثلاثة أسوار يتخللها فصيلان. وكشفت الحفريات عن جزء من السور الرئيسي المشيد بواسطة الحجارة ويبلغ سمكه ستة أمتار في حين يتعدى ارتفاعه خمسة عشر مترا. وتتمثل استحكاماته في مجموعة من الأبراج المربعة في حين تكتنف الأركان البحرية أبراجا مثمنة. وتحمي السور الرئيسي ستارة أمامية يدعمها خندق تمر فيه مياه البحر ويفصل هذا الحفير مصلى العيدين عن تحصينات زويلة.

     ويعتبر باب الفتوح الذي أطلق عليه الأهالي تسمية ” السقيفة الكحلاء ” من أشهر المعالم الإسلامية. ويتكون المعلم من برج ضخم شديد الارتفاع )18 م(  يتوسطه مدخل يؤدي إلى سقيفة عميقة )دهليز( بطول 33 م وعرض 05 أمتار تصل السور الرئيسي بالسور الثالث الداخلي. وكان البرج يشكل قبل إصلاحات العهد العثماني بناية مربعة تعلوها قاعة ضخمة )منظرة( مغطاة بواسطة قبة تضفي مسحة من القدسية على الخليفة الذي كان يعبر هذا المدخل قبل التوجه إلى ساحة القتال. ويشكل الدهليز محورا عسكريا وتجاريا مقسما بسبعة عقود ساندة ومزودا بأبواب مصنوعة من صفائح حديدية لا خشب فيها ومزينة بأسود من البرنز.

 

العهد الزيري: )975 – 1160 م( :   

     حافظ أمراء صنهاجة الأوائل على ولائهم للقاهرة ولكن تطوّر نفوذ علماء المالكية في منتصف القرن الحادي عشر دفع بالمعز بن باديس إلى التنكّر للمذهب الإسماعيلي مما جر على البلاد ويلات الهجرة الهلالية. وتدافع الأعراب نحو إفريقية في فترة تميزت باستفحال الأزمة الاقتصادية وتواتر المجاعات. وأدى هذا الوضع إلى تصدّع الصرح الذي بناه الفواطم وبروز عدة دويلات ضعيفة ومتصارعة مثل إمارات بني الورد وبني الرند. مما جعل النورمان يغتنمون هذا الوضع لاحتلال طرابلس وقليبية وجربة والمهدية عاصمة الإمارة الصنهاجية )1148 م(. واستمرّ الحكم المسيحي إلى سنة 1160 م إلى أن  استردّ عبد المؤمن بن علي هذه القواعد وألحق إفريقية بالممتلكات الموحدية.

     أنهكت حروب المنصور الجيش الصنهاجي وقطعه أحداث الإمارة الحمادية عن قواعده مما دفع بالمعز إلى الاعتماد على خليط من العناصر البربرية والعربية والإفريقية )العبيد السود( المتناحرة. وأدت هذه ” الفوضى العرقية ” إلى هزيمة حيدران التي انتصر فيها 3000 فارس هلالي على جيش قوامه 60000 جندي. كما أدت ندرة الخشب إلى تراجع البحرية فكان أسطول تميم بن المعز لا يتعدى سنة 1078 أربعة عشر غرابا. وقد لاحظ ابن خلدون بمرارة هذا التقهقر وعزا ذلك لضعف الدولة. وتواصل هذا الوضع في العصر الحفصي ولذا أقر علماء إفريقية إزالة كل حصن ” يلي بلاد العدو”.

     لقد لعبت الجغرافيا دورا أساسيا في صياغة نمط دفاعي إفريقي، ذلك أن مناعة هذه المنطقة الواقعة على مشارف مضيق صقلية كانت دائما رهينة تأمين الجبهة الشمالية – الشرقية والتخوم الجبلية والصحراوية الجنوبية – الغربية. وقد اضطلعت الخلافة الفاطمية بهذه المهمة على أحسن وجه مما جعل البلاد تشهد فترات قوة وازدهار مكنتها من تحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية. على أن اختلال هذه الجبهات في آخر العصر الزيري أدى إلى انتشار الفوضى الداخلية وإلى تدخل الأعراب في شؤون الدولة. كما أن تدهور البحرية جعل البلاد معرضة لهجمات القراصنة المسيحيين علاوة على استيلاء الممالك النصرانية على جزر المتوسط.    

المصادر والمراجع:  

–                  ابن أبي زيد القيرواني، النوادر والزيادات، تحقيق محمد ….، بيروت 1999.

–                  ابن حماد، أخبار ملوك بني عبيد، تحقيق تهامي نقرة، تونس 1987.

–                  ابن حمديس، الديوان، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1960.

–                  ابن خلدون، كتاب العبر، بيروت 1968.

–                  ابن الطوير، نزهة المقلتين، تحقيق أيمن فؤاد السيد، شتوتغارت 1992.

–                  ابن هانئ، الديوان، تحقيق محمد اليعلاوي، بيروت 1994.

–                  الجوذري، سيرة الأستاذ جوذر، تحقيق محمد كامل حسين، القاهرة، د.ت.

–                  الداعي ادريس، عيون الأخبار، تحقيق محمد اليعلاوي ، بيروت 1985.

–                  الزردكاشي، الأنيق في المجانيق، تحقيق إحسان هندي، حلب 1985.

–                  القاضي النعمان، افتتاح الدعوة، تحقيق وداد القاضي، بيروت 1970.

–       المجالس والمسايرات، تحقيق الحبيب الفقيه، ابراهيم شبوح ومحمد اليعلاوي، تونس 1978.

–       الطرسوسي، تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء، حققه ونشره ك. كاهن تحت عنوان: “Un traité d’armurie composé pour SaladinB.E.O.XII,1948

–                  بن عبد الله (عبد الفتاح)، الأسلحة ببلاد المغرب الوسيط، ش. ك. ب. كلية الأداب منوبة،2005.

–                  خماس ( علاء الدين)، فن الحرب عند العرب، بغداد 1999.

–                  زكار (سهيل)، المدفعية عند العرب، بيروت 1983.

–                  فؤاد السيد( أيمن)، الدولة الفاطمية بمصر، القاهرة 2000.

– Dachraoui (F), Le califat fâtimide au Maghreb, Tunis 1972.

– Djelloul (N), Les fortifications ottomanes des côtes tunisiennes , Zaghouan 1995.

– Hill (P.R), art. “Mandjanik “, E.I, VI, pp. 389 – 390.

– Idris (P.R), La Berberie orientale sous les Zirides, Paris 1962.

Top