الدفاع والجيش بإفريقية إلى نهاية العهد الأغلبي
تركيبة الجيش الإسلامي
توافدت على إفريقية منذ الفتوحات الأولى أعداد غفيرة من الجند ما انفكت تتزايد عبر الزمن. لذلك فإنّه يصعب فعلا حصر العدد الذي استقر بالمغرب لانعدام الإحصائيات الدقيقة للذين قدموا في مختلف الغزوات والذين خيروا المكوث بالبلاد المفتوحة وعدم العودة إلى أوطانهم، ومن الثابت أن عدد الوافدين كان بضع المئات من الآلاف. وقد أتت هذه الجيوش من أصقاع متعددة من الإمبراطورية الإسلامية كالجزيرة العربية ومصر والشام والعراق وبلاد فارس… فشكلت المقاتلة أو الجند العمود الفقري للحضور العربي الإسلامي ببلاد المغرب وانتشرت في مختلف أنحائه. على أن الغالبية استوطنت إفريقية التي كانت قصبة الحكم السياسي والعسكري للسلطة الإسلامية ببلاد المغرب. فعمّر الفاتحون جلّ المدن الكبرى مثل القيروان وتونس وسوسة وباجة والقصرين وقابس وقفصة والأربس (قرب الكاف) وطرابلس.كما أحكموا سيطرتهم على المناطق الإستراتيجية الحسّاسة التي كان لها دور أساسي في تثبيت قدم الدولة العربية الإسلامية. ومن بين هذه المناطق الهامة نذكر بلاد الزّاب بالمغرب الأوسط (الجزائر اليوم) وقد مثلت قلب بلاد البربر ونقطة وصل أساسية بين المغرب الأدنى (إفريقية) والمغرب الأقصى (المغرب وموريتانيا ). فيما خيرت جموع أخرى من العسكر استيطان الأرياف الخصبة كمناطق الشمال الغربي أو الشمال الشرقي بالبلاد التونسية.
منذ العهود الأولى للفتح أدمج المسلمون في جيوشهم عناصر عديدة من البربر. ويعتقد أن أول من أعطى للبربر مكانا في الجيش الإسلامي هو القائد العربي حسان بن النّعمان (حوالي سنة 700) الذي يعد الفاتح الحقيقي لبلاد المغرب وإفريقية حيث كان له شرف إخضاع قرطاج والقضاء نهائيا على الحضور البيزنطي والمقاومة البربرية الضارية التي قادتها الكاهنة. لم يتبع حسان سياسة التشفي من البربر بل على العكس من ذلك عمل على تأليف قلوبهم فأولى ابني الكاهنة مكانا يليق بهما وأدخلهما في العناصر القيادية لجيشه.
واستمرت سياسة استيعاب البربر مع موسى بن نصير. ولا أدل على ذلك من أن طارق بن زياد، فاتح الأندلس، كان بربري الأصل. كما أشارت المصادر العربية إلى وجود البربر في الجيش الإسلامي الذي أشرف على فتوحات السوس الأقصى أي جنوب المغرب الحالي وموريتانيا.
لكن العلاقة بين الجند العربي والعناصر البربرية لم تكن دائما حسنة أو سليمة، بل بلغت في كثير من الأحيان حدا من التوتر والصدام كاد يقوّض الأوضاع ويهدّد الحضور العربي بالمغرب. ويكفي أن نذكر هنا أن يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف الذي تولى ولاية افريقية في بداية القرن الثاني للهجرة عامل البربر معاملة تحقيرية فجعلهم حرسا خاصا له ووشّمهم بصفة مهينة وأجبرهم على الانتقال من مواطنهم لأسباب ضرائبية فتآمروا عليه وقتلوه. لكن هذه السياسة استمرت بعد ذلك. هذا ما يتبين من الرسالة التي أوردها الطبري والتي قدمها وفد من البربر للخليفة هشام بن عبد الملك (739)، وفيها تذمر وشكوى من سيرة عامل افريقية الذي عيب عليه الكثير من الممارسات السلبية كتقديم البربر في القتال وإقصائهم من الغنائم عند الحصول عليها، والتعدي على الماشية وإتلافها قصد الحصول على الفرو الناعم الذي يبعث لمركز الخلافة. لكن أهم مأخذ كان سبي الصبايا الجميلات وإرسالهن للمشرق ليكنّ من ملذات بلاط الخلفاء. فكانت جملة هذه الممارسات سببا في اعتناق البربر للمذهب الخارجي واندلاع ثورة البربر الكبرى سنة 740.
كان الجند عنصرا أساسيا ثابتا وقارا في سياسات الدولة العربية بالمغرب إذ أوكلت له بادئ الأمر مهمة فتح بلاد المغرب والأندلس، ثم كلف بمهمة فتح أغلب الجزر القريبة من افريقية كصقلية وسردانيا ومالطة وقوصرة . كما كلف بالدفاع عن الحضور العربي الإسلامي والتصدي للثورات البربرية التي قامت ضد سلطة الأمويين والعباسيين التي كانت تعتبر افريقية أرض غنيمة وسبي. وقد لاقت هذه السياسة معارضة الكثير من القادة والجند العرب الذين أصبح لهم شعور قوي بالانتماء إلى المغرب وعابوا على العرب المشارقة اتّباع هذا السلوك الذي يتعارض مع الإسلام ووضعية المجتمع المغربي المسلم. وقد وقع اختيار العمّال وقواد الجهات من الجند أنفسهم فكان الجيش أول نواة للإدارة الإسلامية بإفريقية.
لقد شكل الجند بإفريقية طبقة لها ثقل سياسي وعسكري واجتماعي. بيد أنها لم تكن طبقة متجانسة متآلفة في عناصرها وتكوينها بل على العكس من ذلك شهدت التباين والاختلاف فهي تتكون من عدة عناصر منها:
– العناصر العربية، التي جاءت في الأصل من المشرق وكانت ترى أنها صاحبة الجاه والمرتبة الرفيعة وهي بالتالي حرّية بأن تلعب الدور الريادي وأن تتولى أهم المناصب في الدولة. هذه الفئة تسمى بـ ” الجند القديم”. وقد كان الكثير منها منضويا بصفة رسمية في الجيش ومسجلا في الدواوين ويتقاضى راتبا قارا يسمى “الرزق” أو “العطاء”. وقد قام العديد من أفرادها بثورات كانت ترمي إلى تعزيز نفوذها وتعميق امتيازاتها على حساب الجميع.
وقد تواصلت تحركات هذه الفئة في القرن التاسع فلم تكن تقبل بحكم الأغالبة التميميين بل تعتبره نوعا من الغصب لشرعيتها التاريخية. وتعد ثورة منصور الطنبذي، التي اندلعت إثر قيام زيادة الله بن الأغلب بقتل بعض رموز الجند العربي البارز في القصرين، أهم خطر فعلي هزّ أركان السلطة الأغلبية.
عقبة بن نافع
يمثل عقبة بن نافع الفهري أحد أهم القادة العرب القادمين من المشرق ويعتبر نموذجا معبرا عن الفئة التي ينتمي إليها. ولد عقبة في السنة الحادية عشرة للهجرة في أسرة عربية عريقة من فهر التي تعد بطنا من بطون قريش. وقد ساهم والده في فتح مصر مع عمرو بن العاص وكان من كبار الجند بالفسطاط. لعقبة قرابة عائلية مع والي مصر عمرو بن العاص ويعتقد أن هذه القرابة وكفاءته الشخصية سهلتا عليه الارتقاء والبروز منذ صغر سنه.فلقد أوردت المصادر أنه شارك في فتح بعض المناطق الليبية وقد أبدى في مهمته تلك الكثير من الجد والحزم والشدة، فكان يعامل خصومه بقسوة حادة ويجبر البربر علىبيع أبنائهم لدفع ما عليهم من جزية. عيّن عقبة واليا على المغرب سنة 671 فقام بإنشاء القيروان، معلنا سياسة جديدة تعتمد الاستقرار النهائي وجعل مدينة القيروان معسكرا للمسلمين. فأنشأها بعيدة عن البحر مشرفة على المناطق البربرية في الجهة الغربية مطلة على شمال البلاد التونسية أين توجد عاصمة البيزنطيين قرطاج. وقد رغب في أن يضمن لمعسكره الديمومة فاختار له منطقة تتوفر فيها المياه والعشب في وسط سهل فيضي خصب.
عزل عقبة عن ولاية المغرب سنة 674 م ولكنه أقر من جديد عليها سنة 682 م فقام بفتوحاته الكبرى التي وصلت إلى المحيط الأطلسي والتي انتهت بقتله قرب بسكرة على يد جيش بربري قاده كسيلة.
– عرب إفريقية
تغيرت تركيبة الجيش العربي بمرور الزمن فظهرت فئة جديدة تعرف “بالعرب الأفارقة” وقد كان لهم شعور قوي وصريح بالانتماء إلى المغرب فكانوا يجاهرون برفض سياسة المشرق. وقد برزت بوادر الانشقاق بين الشّام أو المشرق وجيش إفريقية العربي منذ ولاية كلثوم بن عياض، حيث يخبرنا ابن عذاري أن الجيش القادم من الشام سنة 741 م طلب من أهل القيروان أن ” يفتحوا أبواب منازلهم حتى يعرفها أهل الشام” فغضب عرب إفريقية وهددوا بأن يحوّلوا أعنة خيلهم لمحاربتهم عوض محاربة البربر. ولا شك أن هذه الحادثة تندرج ضمن تحول واضح سوف يعبر عنه حفيد عقبة بن نافع عبد الرحمان بن حبيب في نصّ كتبه إلى الخليفة المنصور سنة 755 م يعلمه فيه ” أن إفريقية أسلمت وانقطع السبي منها” وهو ما أغضب الخليفة وولد فتنة كبرى كان لها تأثير سلبي على القيروان وإفريقية. ويمكن اعتبار إبراهيم بن الأغلب، مؤسس الإمارة الأغلبية، من الشخصيات الرمزية المنتمية إلى الجيل الثاني الذي كان واعيا بخصوصيات أهل المغرب واختلافهم عن المشرق الذي بقي في نظرهم الوطن الأم.
إبراهيم بن الأغلب.
ينتمي إبراهيم بن الأغلب إلى قبيلة بني تميم العربية وقد تقلّد والده الأغلب بن سالم بن عقال التميمي ولاية إفريقية سنة 766 م ولكنه قتل بعد مدة وجيزة من حكمه سنة 768 م من طرف قائد عربي آخر هو الحسن الكندي. انتقل أبناء الأغلب بن سالم إلى مصر وهناك تلقى إبراهيم بن الأغلب العلوم الدينية وتفقه فيها وحذق اللغة حذقا كبيرا. ولئن تنقصنا الكثير من المعلومات عن حياته بمصر إلا أنه أصبح من قادة الجند بها. ويورد البلاذري أنه تزعم انتفاضة دخل فيها بيت المال وأخذ أموالها، وتقول الكتابات المناصرة له أنه لم يستول إلا على ما كان يحق له شرعا. بعد هذه الحادثة انتقل إبراهيم بن الأغلب إلى بلاد الزاب ليحتمي بها من تتبعات الخلافة ووالي مصر. وبالزاب كوّن إبراهيم بن الأغلب جيشا وفيا له، كما استطاع أن يفرض شخصيته على سكان المنطقة وظلّ متربصا بالزاب مخيرا عدم التدخل في الشؤون الإفريقية المضطربة وفي سنة 798 م استغل إبراهيم بن الأغلب الفرصة ليعطي دفعا لعلاقته بالخلافة، فدخل إفريقية لنجدة الوالي المخلوع محمد بن المقاتل العكي، فأعاده لمنصبه رغم المناهضة التي كان يلقاها من أهل القيروان فكسب بذلك ثقة الخليفة. وفي سنة 800 قرّر الخليفة هارون الرشيد، بتأثير من والي إفريقية المتمرس هرثمة بن أعين، إسناده إمارة إفريقية وذلك قبل أن تكون السلطة وراثية في نسله مقابل مبلغ مالي يقدم للخلافة فنشأت أول إمارة مستقلة بإفريقية.
– العبيد والموالي
ضم الجيش كذلك بالإضافة إلى العناصر البربرية التي تطرقنا إليها سابقا العديد من العبيد والموالي الذين كانوا يقاتلون ملحقين بأسيادهم ولم يكن لهم عطاء إلا إذا ” ما أسلموا أو عتقوا”. وقد شكل الموالي الجزء الأساسي من الحرس الأميري الخاص ويكفي أن نذكر أن إبراهيم بن الأغلب كان له ما لا يقل عن خمسة ألف حارس عندما انتقل إلى معسكره الجديد بالعباسية وقد كان انتقل إليها ليبتعد عن خطر” جند العرب”. كما اشترى إبراهيم الثاني )874 م – 903 م( مائة ألف من عبيد السودان والصقالبة وألزمهم بابه وجعل عليهم “ميمونا وراشدا” وهما من أكبر مواليه.
لعب الموالي مع الأغالبة دورا هاما في الحياة السياسية والعسكرية وقد أشرفوا على الكثير من المؤسسات الحكومية مثل دار ضرب السكة، كما أشرفوا على تشديد المعالم الكبرى والحصون. وقد تقلد البعض منهم وظائف عسكرية. وتعتبر شخصية خلف الفتى شخصية مثالية في هذا الصدد إذ أصبح له مركزا هامّا نظرا لسهولة الاندماج والترقّي في المجتمع الأغلبي.
خلف مولى أمراء بني الأغلب
لم تشر المصادر إلى تاريخ ميلاد خلف الذي لا نعرف عنه سوى الإسم الذي اشتهر به وهو “خلف” كما لا نعرف المكان الذي ولد فيه ولكن يعتقد أنه ينتمي إلى مجموعة الصقالبة الذين جلبتهم الدولة الأغلبية من أوروبا الشرقية لخدمتها بعد أن تعاظم خطر الجند العربي.بدأ ذكر خلف ” الفتى” أو ” المولى” منذ سنة 818 م مع زيادة الله بن الأغلب. وقد ذكرت المصادر أنه كان يصطحب الأمير في تنقلاته إلى حدود سنة 837 م كما خدم خلف الأمير محمد الأول. وقد تقلد في عهده خطة أساسية في الدولة وهي خطة صاحب ” دار الضرب” ولذلك نجد اسم خلف مسجلا على العملة من سنة 840 إلى سنة 850. بعد ذلك دخل في خدمة أبي إبراهيم أحمد من سنة 856 إلى سنة 863 ويذكر البكري أنه توفي في حصار مالطة سنة 868.
يعتبر خلف من أكبر الموالي البنائين في العصر الأغلبي إذ ينسب له بناء سور سوسة الأول كما ينسب له بناء القصبة ومنارتها التي لا تزال قائمة وتحمل اسمه. وقد مثل بناء قصبة سوسة تحولا جوهريا في نظام الدفاع الساحلي بإفريقية، كما بنى رباط قصر الطوب قرب سوسة والماجل المتصل به وقد يكون حسب بعض الدارسين هو الذي شيد فسقية الآغالبة بالقيروان.
لقد أكدت المصادر التاريخية أن نظام الانتدابات في الجيش كان معقدا، فبالإضافة إلى الجيش الرسمي المرسم في ديوان الجند، هنالك المتطوعة الذين يكثرون في فترة الأزمات والحروب. وغالبا ما يتم التطوع لمهمة معينة في وقت محدود، ولم يكن هذا الصنف يتقاضى أجرا. كما لجأت الدولة في بعض الأحيان للتجنيد الإجباري لعدد من الشبان الذين يلزمون بتأدية الخدمة العسكرية. وقد بلغ أسلوب التجنيد القصري حده في العصر الفاطمي ولكنه وجد منذ العصور السابقة. كما كان يسمح للجند المدوّن والمرابط بالتداول والتناوب في العمل فيمكن لشخص معين أن يأتي بمن يعوضه لأمد محدود.
ديوان الجند
نظم الجيش في مؤسسة كبرى تعرف ” بديوان الجند” وتطور نظام الديوان من التبسيط إلى التعقيد، فقد كان في البداية شبيها بالسجل الذي يدون فيه المقاتلة وتحدد فيه مقادير أرزاقهم ثمّ أصبح فيما بعد إدارة معقدة الدواليب تشرف على كل ما يتصل بالدفاع والحرب في فترة السلم وكذلك في فترات الحروب التي كانت كثيرة.
يتولى الأمير الإشراف بنفسه على” ديوان الجند” الذي كان مقره الأساسي القيروان قبل أن ينتقل إلى العباسية مثل أغلب الدواليب الإدارية للدولة. وكان الأمير يعول على أقربائه وأفراد عائلته والمقربين منه الذين ينتخب منهم عادة ” صاحب الديوان ” وهو المسؤول المباشر على متابعة أمر الديوان وتحيين معطياته سواء بتسجيل الملحقين الجدد بالخدمة العسكرية أو بشطب من مات أو غادر، وهو ما اصطلح عليه آنذاك ” بالحلق”. وقد كانت عمليات التسجيل في الديوان تتم بعد التحري ومعاينة المكتتب فيقع وصفه بدقة في السجل حتى لا يتم خلط بين الأشخاص.
كانت عمليات الشطب من الديوان تنجز في بعض الأحيان لمعاقبة شخص ولحرمانه من العطاء. فلقد قام زيادة الله الثالث في نهاية العهد الأغلبي بحرق الدواوين بعد أن تيقن من زوال حكمه، وقام الداعي الفاطمي عبد الله، مباشرة بعد أن استتب الأمر للفاطميين، بإنشاء ديوان لكتامة وألزم من سجل منهم فيه الخدمة العسكرية. وفي فترة لاحقة قام إسماعيل المنصور ” بإسقاط جماعة من الزمني ومن لم يرض بصحته”.) وقد تعني كلمة الزمني المرضى المزمنين أو أولئك الذين مر عليهم زمن طويل وهم مسجلون في الديوان ولم يكونوا من المباشرين الفعليين(.
ومن مهام ” صاحب الديوان” أنه يتولى أيضا صرف جرايات الجيش ومستحقاته. وكثيرا ما كان تأخيرها أو تعطيلها يحدث اضطرابات وثورات كما كان صاحب الديوان يستعين بالكتاب والقواد الصغار في هذه المهام.
كان العطاء يمنح في البداية إلى المقاتلين العرب دون تمييز وكان نصيب الراكب أكثر من نصيب الجندي الراجل. غير أن نظام العطاء تغير في العصر الأغلبي فلم يعد ” الرزق” يمنح إلا للجند الرسمي الذي يضم الموالي والحرس الخاص والجيش المباشر المدون في السجلات.
يستعين “صاحب الديوان” في مهمته بقواد منتشرين في الجهات يقومون بالشأن المباشر للعسكر في الأقاليم ويتولون نيابة الأمير في مقاطعهم وهو ما يعرف في الشرق ” بالعرفاء” ولكن المصادر المتعلقة بتاريخ إفريقية لم تشر إلى هذه الخطة. ويبدو أن المدن الهامة والثغور الكبرى كانت لها دواوينها التي يعين عليها الأمير من يديرها. وقد أوردت المصادر أن طبنة، وهي من أهم المناطق العسكرية بإفريقية الأغلبية، كان لها عامل إلى جانب قائد العسكر وصاحب الخبر وصاحب العطاء. ولا شك أن تجزئة المهام بهذا الشكل ضمان لسلطة الوالي.
يفيدنا اليعقوبي، وهو من كتاب القرن التاسع الميلادي، أن التنظيم الإداري المجالي لإفريقية كان متطورا يعتمد إدارة مزدوجة: مدنية وعسكرية في نفس الوقت. فلقد قسمت إفريقية إلى عدد من الولايات المدنية التي تعرف ” بالكور” وأقاليم عسكرية سميت ” بالأجناد”. ولا ريب أن هذا النظام الثنائي موروث من التجربة الإدارية البيزنطية المشرقية التي عرفت في القرن السابع ” الثيمات” وهي ” الأجناد” و ” الكور” وهي الولايات أو المقاطعات المدنية كما كانت تسمى بالإغريقية.
كان عدد ” الأجناد” بإفريقية الأغلبية أربعة أما عدد ” الكور” المدنية فكان أكبر بكثير ويكفي أن نذكر أن كور إفريقية وطرابلس وبلاد الزاب بلغ ما لا يقل عن عشرين كورة، (والقيروان كورة ثانية وباجة وجزيرة شريك وصطفورة وقمودة…) وقد يعني هذا اتساع مجال الإدارة العسكرية مقارنة بالإدارة المدنية. فكان لكل ” جند” مركزه وأقاليمه التابعة له. ونذكر من الأجناد:
1- جند تونس ويشمل جزيرة شريك ) الوطن القبلي ( وباجة وطبرقة وصطفورة ) بنزرت (،
2- جند القيروان ويشمل قمودة وقصطيلية وقفصة وقابس ونفزاوة.
3- جند طرابلس ويضم فزان وزويلة.
4- جند الزاب ويشمل طبنة وميلة وبغاية ونقاوس وبلزمة وستيف ومقرة.
المعالم العسكرية: الأربطة ودور الصناعة:
تغيرت الظرفية السياسية والعسكرية بالمغرب منذ القرن الثامن الميلادي بعد أن تمكن العرب المسلمون من بسط سيطرتهم على الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. فكان لزاما على الدولة العربية أن تحصن سواحلها خشية من الهجمات البيزنطية على ممتلكاتها فأقام العرب على امتداد السّاحل وبحافز من الخليفة هارون الرشيد، سلسلة من الحصون والقلاع عرفت بالأربطة لحماية دولتهم من خطر المسيحيين. ولئن كان الكثير من القلاع موروثا عن الفترات السابقة إلا أن المجهود التعميري العربي في هذا الباب يعتبر فريدا من نوعه. والواقع أن نظام التحصين العربي بإفريقية يختلف عن ذاك الذي كان سائدا من قبل في العهد البيزنطي.
ففي هذه الفترة الأخيرة شيد البيزنطيون، بسرعة فائقة، العديد من الحصون والقلاع التي لا تزال قائمة ترى آثارها اليوم وقد أنجز جلها في المناطق الداخلية من البلاد التي كانت تعاني انتفاضات القبائل البدوية البربرية. أما العرب فقد اتجهت عنايتهم إلى السّواحل باعتبار أن الخطر الأساسي المتربص بهم هو الخطر المسيحي الذي كان ينطلق من الجزر القريبة من البلاد التونسية.
طوّع المسلمون العديد من المعالم والقلاع القديمة واستغلّوها منذ عصر الولاة الأوائل. ولعل أبلغ مثال على ذلك ماروي عن رباط رادس القريب من تونس. ولكنهم أنشأوا بدورهم الكثير من القلاع والحصون. وقد بلغت سياسة التحصين أوجها مع الأغالبة وبالتحديد في عهد أبي إبراهيم أحمد الذي يذكر ابن خلدون أنه أمر ببناء عشرة آلاف حصن من الحجارة مزودة بأبواب الحديد. ولإن كان هذا الرقم مبالغ فيه إلا أنه يعبر عن المجهود الجبار الذي بذل لحماية سواحل الإمارة من الخطر المسيحي. وقد بينت الاستكشافات الأثرية فعلا كثافة عدد الأربطة التي أقيمت على كامل امتداد ساحل إفريقية في كل المناطق تقريبا وفي جميع الأماكن الاستراتيجية الحساسة.
ارتبطت مؤسسة الرباط بالمذهب السني الذي انتشر بإفريقية، فكان العديد من علماء السنة يحثون على المرابطة في الحصون والتنقل بينها لتعميرها، بل سكن الكثير منهم الذين لهم تأثير مباشر في المجتمع، هذه الأربطة. ولا شك أن التقارب مع السنة هو الذي دفع بعبيد الله المهدي أن ينزع سلاح الحصون التي كانت على الساحل خوفا من خطرها على دولته الفتية. ويمكن أن نعتبر العهد الفاطمي الشيعي بداية التحول الوظيفي الذي عرفه الرباط إذ تقلص الدور الجهادي وانتشر التزهد والنسك.
ومع ذلك فلا يجب أن يتبادر إلى الذهن أن الأربطة كانت مثل الثكنات العسكرية. فلقد بين الأستاذ ناجي جلول أن أغلب الحصون كانت تمتلك حمى، أي أراضيا زراعية مخصصة لها من قبل المرابطين ذاتهم. وقد بلغت هذه الأحمية في بعض النواحي مساحات شاسعة من ذلك أن قصر زياد، قرب صفاقس، كان له حمى يشتمل على حوالي 17000 شجرة زيتون. كما أشارت كتب الفتاوى إلى قيام مرابطي قصر المنستير بصيد الأسماك واستعمال غرف الرباط كمخازن لبضائع التجار.
إلى جانب هذه الوظائف لابد أن نظيف دورا آخر لعبته قلاع الساحل وهو دور الفنادق التي تقام على الطريق والتي يؤمها المسافرون التجار وغيرهم أثناء سفرهم للراحة والتزود بالمياه والعدة.
أمّا من الناحية المعمارية فقد استقر تخطيط الأربطة على شكل يكاد يكون موحدا. ففي غالب الأحيان كان الرباط مربع الشكل متوسط الحجم، يتراوح قياس أضلعه ما بين 30 و40 م. وتحيط بسوره الخارجي أبراج دائرية، وعادة ما تخصص الجهة البحرية للمنارة التي تأخذ شكلا اسطوانيا.
يحتوي الرباط بصفة دائمة على مدخل واحد يكون على شكل سقيفة ممتدة يحيط بجانبيها غرف للعسس تعلوها قبة تأوي السقاطات والباب المنزلق وتفضي السقيفة إلى ساحة وسطى تحيط بها غرف المرابطين وبيوت الراحة والاستحمام والمخازن.
أما الطابق العلوي فإنه يشتمل على مسجد صغير يحتل دائما الجهة القبلية من المعلم كما يشتمل على عدد آخر من الغرف التي توزع على بقية الأجنحة.
تبيّن الأمثلة أن غرف المرابطين كانت بسيطة جدا، فهي صغيرة الحجم مابين 6 و8 أمتار مربعة، تحتوي على طاقة صغيرة يودع فيها المرابط متاعه، كما تزود بفتحة صغيرة تطل على الجهة البحرية التي يأتي منها الخطر.
هذا المثال العام والبسيط هو الذي يمكن أن يشاهد في جل أربطة البلاد التونسية، وهي البلاد العربية الإسلامية الوحيدة التي حافظت أحسن من غيرها على هذا الشكل من القلاع، فمن الأربطة التي نسجت على هذا التصميم نذكر الرباط الذي شيده والي إفريقية من قبل هارون الرشيد هرثمة بن أعين بالمنستير سنة 798م، كما نذكر رباط سوسة الذي وإن بني على أنقاض معلم روماني قديم، فقد شهد تحويرات جذرية في العصر الأغلبي وبالتحديد سنة 821 م حين قام مسرور خادم زيادة الله بإصلاحه وإضافة الطابق العلوي قبل فتح صقلية بست سنوات.
وعلى هذا المثال بني رباط لمطة قرب سوسة ورباط ابن الجعد بجزيرة الغدامسي بالمنستير ورباط دويد بنفس المدينة والأمثلة أكثر من أن تحصى. كما يعتقد أن قصبة مدينة سوسة كانت في بداية أمرها على هذا النمط رغم أنها زودت بمنارة فريدة اعتمدت شكل البرج المربع المتراكب الأجزاء على غرار مئذنة جامع القيروان. وقد استفادت قصبة سوسة بشكل واضح من ارتفاع التل الذي أقيمت عليه، ولذلك تسنى تشييدها بعيدا عن البحر، وهو ما لم يكن مألوفا من قبل، فقلصت القصبة المنسوبة لخلف دور الرباط الأول الذي يقع في المنطقة الساحلية من المدينة على مشارف الميناء ودار الصناعة.
كان الدور الأساسي للرباط حماية الساحل خاصة في المناطق التي يقل فيها السكان.أما المدن، التي يعتقد أنها كانت موضع التركيز السكاني الكبير، فقد كانت في غالب الأحيان مسورة. والواقع أن تحصين المدن من العادات القديمة في التمدن. وقد ورث العرب عند استقرارهم بإفريقية الكثير من المدن المسورة فحافظوا على أسوارها ودعموها. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال كل من تونس وباجة والكاف وغيرها. ولكنهم سوروا كذلك المدن التي شيدوها. فلقد بني سور القيروان الأول في بداية العصر العباسي، من لبن وطين، حتى يتمكن العرب من التصدي للخطر البربري المحدق بهم. كما زودت مدينة العباسية أيضا بسور وخندق لحمايتها. وشيدت مدينة صفاقس في العهد الأغلبي سنة 848 م منذ البداية محمية بسور من حجارة وطوب. ونفس هذا الاختيار نراه في مدينة سوسة التي لا تزال إلى اليوم تحافظ على سورها الأغلبي مثلها مثل مدينة صفاقس.
لم يكن المجهود الحربي العربي يقتصر على حماية الساحل والمدن فقط بل كان يعتمد أيضا إنشاء قوة بحرية قادرة على مواجهة الخطر الأوروبي. ولذلك كان لا بد من تقوية الجيش البحري وتزويده بالسفن وتمكينه من موان آمنة.
المواني ودور صناعة السفن:
ورث العرب عن الفترات السابقة بنية تحتية كثيفة من المراسي والمواني المهيأة. ومن أشهر المواني القديمة التي وقع إعادة استخدامها نذكر بالخصوص مواني رادس وطبرقة وقليبية وميناء سوسة الذي طوره المسلمون واستخدموه في فتوحات جزيرة صقلية على وجه الخصوص. غير أن الحقبة الأولى شهدت بناء ميناء ودار لصناعة السفن بمدينة تونس. واختلفت المصادر العربية في صاحب هذا المشروع الضخم، فنسبه البعض إلى حسان والبعض الآخر إلى موسى بن نصير، إلا أن الجميع يثني عليه ويعتبروه من أهم المنشآت العربية بإفريقية. تم البناء باعتماد يد عاملة قبطية مسيحية جلبت من مصر، وهي بلاد لها تجربة متقدمة في صناعة السفن وإنشاء المواني بحكم تاريخها البحري العريق. ويقدم نص البكري، وهو من الكتاب الأندلسيين الذين يعتمد بمقالهم، أحسن وصف لميناء مدينة تونس التي كانت كما نعلم ثاني أهم مدينة إفريقية بعد القيروان وقد جاء في كتاب المسالك والممالك:” أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز وهو والي مصر أن يوجه إلى معسكر تونس ألف قبطي أهله وولده وأن يحملهم من مصر ويحسن عونهم حتى يصلوا إلى ترشيش وهي تونس. وكتب إلى ابن النعمان أن يبني لهم دار صناعة تكون قوة وعدة للمسلمين إلى آخر الدهر، وأن يجعل على البربر جر الخشب لإنشاء المراكب ليكون ذلك جريا عليهم إلى آخر الدهر وأن يصنع المركب بها ويجاهد الروم في البر والبحر وأن يغار على سواحل الروم فيشتغلوا عن القيروان… فوصل القبط إلى حسان وهو مقيم بتونس فأجرى البحر من مرسى رادس إلى دار الصناعة وجر البربر الخشب وجعل فيها المراكب الكثيرة وأمر القبط بعمارتها”.
هكذا إذن، بدأ العرب في خوض تجربة النهوض بجيش البحرية وقد نجحوا في ذلك فكونوا في القرون الموالية قوة تمكنت من كسر سيطرة الروم البيزنطيين على البحر المتوسط بل تجاوزوها وحققوا عديد الانتصارات خاصة مع الفاطميين الذين كانت لهم سياسة بحرية متطورة.
المصادر والمراجع
– ابن عذاري، البيان المغرب، في. كولان ولفى برونفنسال، بيروت 1983
– البكري، المسالك والممالك، في، فاليوفن وفيري، تونس 1992
– المالكي، رياض النفوس، في، البكوش، بيروت 1983
– ناجي جلّول، الرباطات البحرية بإفريقية في العصر الوسيط، تونس1999