الجيش الوطني بعد الاستقلال معارك تأمين الحدود والجلاء: 1956 ـ 1963

بادرت الحكومة التونسية منذ إعلان الاستقلال، يوم 20 مارس 1956 بالعمل على بناء الدولة واستكمال سيادتها الداخلية والخارجية  غير أن هذه السيادة ظلت منقوصة نظرا لبقاء القوات العسكرية الفرنسية في بعض المناطق من البلاد. فقد بلغ عدد تلك القوات 50000 رجل موزعين بين القاعدة العسكرية ببنزرت التي كانت “تحت السيادة الفرنسية” وخمسة قواعد أخرى وهي: رمادة، قابس، قفصة، صفاقس وتونس (العوينة). وكان من أوكد أولويات حكومة الاستقلال تأمين حدود البلاد الغربية والجنوبية من اعتداءات الجيش الفرنسي الذي لايزال مسيطرا على الجزائر والعمل على إجلاء ما تبقى منه بتونس سواء داخل البلاد أوفي بنزرت.

وقد نادى المجلس الوطني التأسيسي مرارا بضرورة جلاء القوات الفرنسية عن البلاد. وفي 24 جوان 1956 تم استعراض أول نواة للجيش الوطني التونسي وصرحت الحكومة أنها لن تتوانى في استئناف الكفاح لدعم استقلال البلاد وإجلاء القوات الأجنبية عنها واستلام القوات المسلحة التونسية شؤون الأمن الخارجي. وجددت رفضها لأن تكون تونس قاعدة حربية لفرنسا ضد الجزائر الشقيقة التي تخوض آنذاك معارك التحرير. أما الحكومة الفرنسية فكانت ترى في بقاء قواتها بتونس حفظا لسلامة رعاياها المستوطنين بتونس وحماية لمصالحهم من جهة ودعما لجيشها المحارب بالجزائر من جهة ثانية، إضافة إلى دعم النفوذ الفرنسي في منطقة البحر الأبيض المتوسط للدفاع عن فرنسا وعن “العالم الحر” في مواجهة الكتلة الشرقية.

كل هذه العوامل جعلت السنوات الأولى للاستقلال (1956-1963 ) تشهد حركية سياسية وضغطا شعبيا وعسكريا لإجلاء بقايا جيش الاحتلال الفرنسي عن البلاد. هذا الإجماع  الوطني على الكفاح من أجل السيادة كاملة قابلته الحكومة الفرنسية سياسيا بالتعنت والمماطلة، وميدانيا باختراق حدود البلاد ومجالاتها البحرية والجوية واستعمال مختلف وسائل التدمير لقصف الأهالي وممتلكاتهم على الحدود الغربية  والجنوبية وصولا إلى بنزرت أين دارت معركة الجلاء الكبرى وانتهت بانسحاب آخر جندي أجنبي عن أرض الوطن.   

الاشتباكات على الحدود الغربية وأحداث الساقية:

رغم الشروع في أكتوبر 1956 في تنفيذ الاتفاق الخاص بتحويل مهام الجندرمة الفرنسية ومنها مراقبة الحدود إلى التونسيين، فإن القوات الفرنسية المتمركزة بالجزائر شرعت في اعتداءاتها المتكررة على البلاد التونسية بدعوى ملاحقة المجاهدين الجزائريين.

وما من شك في أن الدعم التونسي للثورة الجزائرية كان التزاما شعبيا وحكوميا مطلقا مستندا إلى الروابط التاريخية وإلى المصير المشترك للشعبين الشقيقين. فقد آوت تونس القيادات السياسية والعسكرية للثورة وسهلت الدعم اللوجستي للمجاهدين ولجيش التحرير الذي “كان يعد في تونس 22000 جنديّا أي أنه كان يفوق عددا كامل ما يتألف منه الجيش الوطني التونسي” آنذاك. وعملا على قطع هذا الدعم عن الجزائر كثفت قوات الاحتلال من اعتداءاتها على المناطق الحدودية التونسية ـ الجزائرية لترويع الأهالي وثنيهم عن مساندة المجاهدين. وقد تصدت القوات المسلحة التونسية رغم حداثة تكوينها وضعف إمكاناتها بكل حزم لتلك الاعتداءات واشتبكت مع القوات الفرنسية في عدة مناسبات دفاعا عن سيادة البلاد.

تعددت اعتداءات الجيش الفرنسي على البلاد التونسية وانتهاك أجوائها، واحتجت الحكومة التونسية بشدة على تلك الاعتداءات. ورغم قبول فرنسا بالجلاء الجزئي لبعض وحداتها المتمركزة بتونس فإن الاعتداءات لم تتوقف كما أن الحكومة الفرنسية لم تستجب لمطالب الشعب التونسي وحكومته بالجلاء التام. بل تواصل خرق الحدود البرية والأجواء التونسية وتكررت الاعتداءات على الممتلكات والمواطنين في جهات عين دراهم، فريانة، غار الدماء، ساقية سيدي يوسف وغيرها وتعددت ضحايا العدوان فأعلنت الحكومة التونسية حالة الطوارئ بتلك المناطق وانتظمت مظاهرات كبرى في كامل أنحاء البلاد تطالب بالجلاء. ومن أهم المعارك التي اشتبكت فيها القوات المسلحة التونسية مع الجيش الفرنسي المتمركز بالجزائر في تلك الفترة نذكر: معركة عين دراهم يوم 31 ماي 1957، ومعركة “فم الخنقة” يوم 2 جانفي 1958، ومعركة قفصة يوم 22 ماي 1958 حيث اشتبكت وحدات فرنسية مع عناصر من الفوجين الثاني والرابع للمشاة تدخلت لنجدة اللاجئين الجزائريين إثر تعرضهم لاعتداءات القوات الفرنسية.

وفي تصعيد خطير للموقف على الحدود الغربية للبلاد، وبدعوى حق التتبع قامت 25 طائرة حربية فرنسية بغارة جوية مدمرة قصفت خلالها قرية ساقية سيدي يوسف (ولاية الكاف) يوم 8 فيفري 1958 وقد نتج عن هذا القصف خراب ¾ القرية. ولم يمنع احتشاد المواطنين يوم السوق الأسبوعية المعتدين من الغارة عليهم مما أدى إلى استشهاد 68 وجرح 87 منهم.

كان رد فعل الحكومة التونسية حازما فقد استغلت هذا الاعتداء ليكون الانطلاقة الفعلية لمعركة الجلاء. وقررت منع تحرك القوات الفرنسية خارج ثكناتها دون إذن مسبق. كما دعت سفيرها بباريس وطالبت بالجلاء الفوري عن كامل البلاد بما فيها بنزرت أين منعت الحكومة التونسية عبور القنال على المراكب الحربية الفرنسية وقررت أن لا يحق للقوات الفرنسية بتونس التحرك خارج ثكناتها إلا في حالة مغادرتها إلى أول مركب في أقرب ميناء…

 ولأول مرة منذ الاستقلال رفعت تونس شكوى إلى مجلس الأمن الدولي ضد فرنسا حول الاعتداء. وإثر مداولاته لم يتخذ مجلس الأمن الدولي أي قرار ملزم تجاه المعتدين واكتفى بالمقترح الأمريكي البريطاني للمساعي الحميدة بين تونس وفرنسا. وتم تشكيل لجنة أمريكية ـ بريطانية اقترحت انسحاب القوات الفرنسية من كامل التراب التونسي ما عدا بنزرت التي أقترح أن يفتح باب التفاوض حولها بين الطرفين في أقرب وقت ممكن. وكنتيجة “للمساعي الحميدة” تم في 17 جوان 1958 تبادل الرسائل بين الحكومتين الفرنسية والتونسية  التزمت بمقتضاه فرنسا بالانسحاب من كامل أنحاء البلاد خلال أربعة أشهر باستثناء قاعدة بنزرت التي سيتم إعداد اتفاق مؤقت في شأنها إلى حين تحديد وضعها النهائي.

وقد رأت الحكومة التونسية في هذا الاتفاق بداية مسار تفاوضي سيؤدي حتما إلى الجلاء الكامل والنهائي. ولضمان جلاء القوات الفرنسية عن داخل البلاد كخطوة مرحلية، قبلت الحكومة التونسية تأجيل المطالبة بالجلاء النهائي عن بنزرت. أما فرنسا فقد رأت فيه مكسبا تمثل في عودة قواتها إلى وضع ما قبل فيفري 1958 حين قررت الحكومة التونسية الحد من تحركاتها.

غير أن قوات الاحتلال الفرنسية، ورغم تبادل الرسائل بين الحكومتين التي تضمن التهدئة وأقر الجلاء المرحلي، فقد واصلت اعتداءاتها على الحدود الغربية للبلاد وتصعّدت الاعتداءات  بالتوازي مع تصاعد نسق العمليات ضد المقاومة الجزائرية. فبين منتصف 1959 والثلاثية الأولى من 1960 تم إحصاء 196 اشتباك بين القوات الفرنسية والمقاومة الجزائرية على الحدود التونسية. كما تم بين 28 ماي و2 جوان 1960 قصف التراب التونسي بالمدفعية الثقيلة في عملية أطلق عليها Boxe .

ولم تتوقف تدخلات الجيش الفرنسي من الحدود الجزائرية في التراب التونسي واعتداءاته على الأهالي وعلى الممتلكات فقد بلغت هذه الاعتداءات ذروتها عندما عززت السلط الاستعمارية بالجزائر القاعدة العسكرية ببنزرت خلال صائفة 1961 بالبوارج الحربية والأسلحة والطائرات والمظليين لضمان السيطرة على القاعدة وعلى المدينة وقمع الجماهير الشعبية المطالبة بالجلاء.

ومثلما كانت الحدود الغربية مسرحا لاعتداءات قوات الاحتلال المتمركزة بالجزائر ظلت مناطق عديدة في الجنوب التونسي ترزح تحت الاحتلال الفرنسي رغم استقلال البلاد وكانت السلط الفرنسية تريد المحافظة على وضع غير قانوني أقامته في المجال التونسي خدمة لنواياها الاستيطانية في الجزائر ورغبة في الهيمنة على الثروات الصحراوية.

 معارك الجلاء عن الجنوب التونسي:

إثر قرار الحكومة التونسية في فيفري 1958، بعد أحداث الساقية مباشرة، منع تحرك القوات الفرنسية المتواجدة بتونس خارج ثكناتها وتضييق الخناق عليها، قامت وحدات الجيش الوطني مدعومة بالمتطوعين من المواطنين بإقامة السدود والحواجز على المنافذ الرئيسية للثكنات الفرنسية التي ظلت متمركزة في بعض المناطق داخل البلاد وفي بنزرت. وتسبب هذا الحصار في عديد المواجهات سقط خلالها عديد الضحايا من الجانبين وكان من أهمها المواجهات التي دارت في رمادة بين الحامية الفرنسية بها ووحدات الجيش الوطني التونسي والمواجهات التي تمت في أقصى الحدود الجنوبية التونسية بسبب خرق الجانب الفرنسي للاتفاقيات الحدودية وتجاهله لحق الشعب التونسي في السيادة على كامل أراضي الوطن بما فيها المنطقة الصحراوية الجنوبية.

 معركة رمادة: مـاي 1958:

لم يمض سوى ثلاثة أشهر على أحداث الساقية حين قامت الوحدات العسكرية الفرنسية برمادة  بتحدي إرادة الحكومة التونسية وخرق قرارها فرض إذن مسبق على تحركات الجيش الفرنسي بالبلاد، فتحركت تشكيلة من الجيش الفرنسي مكونة من 30 عربة مصفحة ومجهزة بالأسلحة الرشاشة والمدفعية وغادرت مركزها في رمادة دون إذن السلطات التونسية واتجهت إلى قرية “بئرعمير” الواقعة على بعد 40 كلم شمال رمادة واحتلتها رغم استماتة القوات التونسية المتواجدة بها في الدفاع عنها. ويوم 19 ماي تمكنت القوات التونسية بعد أن تلقت التعزيزات من تطاوين من دحر المعتدين واسترجاع القرية وملاحقة القوات الفرنسية المنسحبة حتى أجبرتها على العودة إلى مواقعها الأولى التي كانت بها في رمادة. وتنفيذا لقرار الحكومة بمنع تحركات الجيش الفرنسي خارج مواقعه، قامت القوات المسلحة التونسية بتركيز بعض التشكيلات في بعض المواقع الهامة حول رمادة مثل الهاشم، واد الغار، كمبوط، لإعاقة تحرك الجيش الفرنسي خارج مواقعه وهو ما أدى إلى محاصرة الوحدات الفرنسية وعزلها عن عناصرها المتواجدة خارج رمادة في مراكز متقدمة مثل ذهيبة وبرج بورقيبة (برج لوبوف سابقا).

وفي مساء يوم 24 ماي حاولت آلية فرنسية اقتحام الحاجز الذي أقامته القوات التونسية على المحور الرابط بين رمادة وبرج بورقيبة في مستوى جبل كمبوط غير أنها فشلت في ذلك وتم تحطيمها. وحاولت القوات الفرنسية برمادة رد الفعل غير أنها تكبدت خسائر جسيمة وهو ما دفعها إلى الانسحاب مجددا إلى مواقعها الخلفية وطلب التعزيزات من ذهيبة وبرج بورقيبة إلا أن القوات التونسية اعترضت تلك التعزيزات ومنعت وصولها إلى الوحدات الفرنسية برمادة. ولم تجد القوات الفرنسية أمام هذا الحصار من حل سوى اللجوء إلى الطيران الذي عززها يوم 25 ماي قادما من الجزائر وأمطر الجهة كامل اليوم بالقنابل. وكان القصف مركزا على مواقع القوات التونسية في رمادة وواد دكوك  وقد تصدت القوات التونسية لمناورات العدو وأخلت السهول واعتصمت بالمرتفعات واتخذتها منطلقا للمقاومة. وفي يوم 26 ماي انسحب الطيران من ساحة المعركة وتواصلت الاشتباكات بين القوات التونسية التي أحسنت استغلال الظروف الميدانية بتمركزها بالمرتفعات والقوات الفرنسية التي فضلت التراجع نحو رمادة وإقامة خط دفاعي لمنع القوات التونسية من ملاحقتها.

وفي يوم 28 ماي توقفت المواجهات العسكرية بين الجانبين بعد أن أسفرت عن سقوط عشرات الشهداء التونسيين نذكر منهم المقاوم مصباح الجربوع. وقد برزت وحشية قوات الإحتلال في قصفها لعائلة باكملها لا علاقة لها بالمعركة. أما من الجانب الفرنسي فتم الإعلان عن وفاة 5 عسكريين وجرح 18 آخرين وتحطم 6 سيارات عسكرية.

 وبالتوازي مع الصمود العسكري على الميدان طلبت الدبلوماسية التونسية مجددا من الأمم المتحدة (مجلس الأمن الدولي) يوم  29  ماي 1958 التدخل لوقف الاعتداءات على البلاد التونسية من طرف القوات الفرنسية المتمركزة بها وبالجزائر وتوصلت لجنة المساعي الحميدة التي بعثت منذ أحداث الساقية إلى صياغة الاتفاق الفرنسي ـ التونسي يوم 17 جوان 1958 القاضي بانسحاب كافة الوحدات الفرنسية من البلاد التونسية باستثناء قاعدة بنزرت التي اتفق على أن تفتح المفاوضات حولها. وقد قبلت الحكومة التونسية هذا الاتفاق كخطوة مرحلية لتسهيل الجلاء تدريجيا عن بقية مناطق البلاد.

 معركة الحدود الجنوبية الصحراوية: (الناظور 233):

كانت الحكومة التونسية تطالب بسيادتها على حدودها الجنوبية الصحراوية التي تمتد في عمق الصحراء مساحة أعمق من تلك التي حددتها فرنسا تبعا لنواياها الإستطانية في الجزائر. فقد كانت فرنسا تعتبر أن الحدود الجنوبية لتونس مع ليبيا تنتهي عند الناظور رقم 220 المسمى Fort Saint (برج الخضراء حاليا) والواقع أن حدود تونس تمتد أبعد من ذلك بـ 25 كلم أي عند الناظور رقم 233 في المنطقة المسماة “قرعة الهامل”.

أما من الجانب الغربي فقد نصت اتفاقية 1901 بين تونس والجزائر (المحتلتين) على أن الحد الفاصل بين البلدين جنوبا هو نقطة بئر الرومان. وبقيت المناطق الواقعة جنوب هذه النقطة الدالة يشوبها الغموض وتظهر على الخرائط الفرنسية في شكل خط متقطع أعتبر حدا وقتيا. وقد رفضت الحكومة الفرنسية هذا المطلب الشرعي لتونس وادعت أن الموقف التونسي تغذيه الرغبة في الثروات الصحراوية وأنها ستعتبر أي تحرك تونسي نحو العلامة 233 اعتداءا على فرنسا.

أما تونس فقد دافعت عن موقفها أمام المنتظم الأممي مستندة إلى الاتفاقيات المبرمة سلفا بين تونس وليبيا والتي أمضاها من جانب نواب فرنسيون كانوا يمثلون تونس آنذاك.

       وعند جلاء الجيش الفرنسي عن الجنوب التونسي بمقتضى اتفاقية 17 جوان 1958 تسلم الجيش التونسي برج الخضراء والمطار وبئرا ارتوازية تبعد عن البرج حوالي مائة متر وهي البئر الوحيدة الموجودة بالمنطقة. وفي واجهة هذا الحصن على مسافة مائتي متر كانت تتمركز داخل التراب الجزائري حامية حدودية فرنسية وكان عناصر هذه الحامية يترددون على البئر التونسية للتزود بالماء.

ومنذ منتصف جويلية 1961 تأزمت العلاقة بين تونس وفرنسا بسبب رفض الحكومة الفرنسية الدخول في مفاوضات حول الجلاء عن بنزرت وعن أقصى الجنوب، وهددت الحكومة التونسية يوم 17 جويلية بمحاصرة بنزرت والزحف نحو قرعة الهامل في صورة تواصل الرفض الفرنسي. وفي الوقت الذي حاصرت فيه القوات التونسية من جيش وحرس وطني ومتطوعين قاعدة بنزرت، اتجهت مجموعات من المتطوعين في الجنوب التونسي نحو المواقع التونسية المحتلة في قرعة الهامل     ( الناظور 233) .

ويوم 20 جويلية 1961 تم إعلام الحامية الفرنسية بالتراب الجزائري أن الحدود التونسية أغلقت أمام الفرنسيين وبالتالي يمنع تزودهم بالماء من البئر التونسية. وكرد فعل مباشر على الإجراء التونسي قامت القوات الفرنسية بالجزائر على الساعة العاشرة ليلا بهجوم مباغت على البرج التونسي شنته 9 دبابات معززة بـ4 طائرات. فردت القوات التونسية على الهجوم بشدة وصمود وهو ما دفع بالغزاة إلى طلب التعزيز من القواعد الفرنسية بالجزائر بـ9 طائرات من قاذفات القنابل وصلت إلى المنطقة صباح 21 جويلية 1961 وقامت بقصف البئر والبرج مجددا، فواجهتها نيران المدفعية التونسية حتى عادت على أعقابها دون تحقيق هدفها. ومنذ ذلك التاريخ وحتى إعلان وقف إطلاق النار لم تتجرّأ القوات الفرنسية على الهجوم وباتت القوات التونسية تراقب كامل المنطقة. وقد أسفرت هذه المعركة عن استشهاد 13 جنديا من الجيش التونسي وإصابة عدد آخر بجروح، أما من الجانب الفرنسي فقد تم التصريح بسقوط طائرة وتحطم 6 عربات وموت 60 عسكريا. 

 

معركة الجلاء عن بنزرت: جويلية 1960.

تعتبر معركة بنزرت آخر معارك الجلاء وأكبرها. فقد وجدت القوات المسلحة التونسية الفتية يساندها آلاف المتطوعين وبعض التشكيلات النظامية، في مواجهة القوات الفرنسية المتمركزة بقاعدة بنزرت والمدججة بأحدث الأسلحة ووسائل التدمير القوية (طائرات، دبابات، مدفعية، بوارج حربية…) ، تعززها وحدات المظليين القادمة من الجزائرالمحتلة. غير أن تباين موازين القوى لم يكن ليثني الشعب التونسي وحكومته وقواته المسلحة عن خوض هذه المعركة بصمود حتى تحقيق الجلاء التام    و النهائي عنها.

 لماذا تشبثت فرنسا ببنزرت:

تعتبر بنزرت طيلة الحقبة التاريخية الاستعمارية أهمية خاصة في الإستراتيجيا الحربية الفرنسية  نظرا لخصوصياتها الطبيعية التي أهلتها لإيواء إحدى أهم القواعد العسكرية الفرنسية. فالمضيق الذي تشكله مع جزيرة صقلية يعتبر ممرا إجباريا بين شرق المتوسط وغربه، كما أن بحيرتها  البالغ قطرها 12 كلم يمكنها من استقبال مختلف القطع البحرية. وتحيط بهذه البحيرة سهول مناسبة لحفر الأحواض ولمد المطارات، كما أن الربى والكتل الصخرية المحيطة بها تمكن من إنشاء المخازن تحت الأرضية والمخابئ المضادة للأسلحة الذرية.

ورغم أن احتلال بنزرت قد تم منذ 24 أفريل 1881 إثر إنزال 8000 جندي فرنسي بها، فإن التفكير في إنشاء قاعدة بها لم يبدأ إلا منذ العشرية الأخيرة من القرن 19 نتيجة المتغيرات الدولية  وتزايد حاجة فرنسا إلى قاعدة في شمال إفريقيا تعاضد قاعدة طولون  وقد تطورت هذه القاعدة تدريجيا ورغم ما شهدته من مد وجزر خلال الحربين العالميتين فإن الاهتمام بها تزايد خلال الحرب الباردة ورفضت فرنسا الجلاء عنها بعد استقلال البلاد سنة 1956. وقد علل الجنرال ديقول موقف بلاده هذا بقوله ” عندما نأخذ بعين الاعتبار هذه الحقائق، ندرك أن فرنسا لا تريد ولا تستطيع في الوضع الدولي الراهن أن تعرض مجالها والمجال الأوروبي والعالم الحر إلى احتمال السيطرة على بنزرت من طرف قوى معادية. هذا هو السبب الذي جعل فرنسا تنشأ قاعدة في بنزرت.”

 فبنزرت ميناء في موضع محمي طبيعيا، بها مركب عملياتي يضم قاعدة بحرية ـ جوية (المصيدة/ الخروبة) وقاعدة جوية (سيدي أحمد). نجد بهذا المركب أسطولا من القطع الحربية البحرية والتشكيلات الجوية المختلفة للهجوم والمراقبة ومنشآت قيادية ومنشآت الإشارة ومنشآت الاستشعار والمنشآت الدفاعية (بجبل الكبير، الناظور، رأس بنزرت، الرمادية…) والمركّب اللوجستي المتمثل في المعامل العسكرية للأسطول (A.M.F) وبعضها تحت الأرض، وأحواض إصلاح السفن الحربية بسيدي عبد الله التي بإمكان بعضها استقبال أكبر السفن البحرية الفرنسية المستعملة آنذاك، إلى جانب المخازن والخزانات تحت الأرضية للذخائر والمحروقات.

باختصار يمكن القول إن الموقع الاستثنائي لبنزرت وأهمية منشآتها ووسائلها الحربية عوامل جعلت منها جبهة تراقب شمال المتوسط وشرقه ونقطة ارتكاز للطائرات والسفن الحربية المعدة للقيام بعمليات في منطقة مضيق صقلية  وهو ما جعل فرنسا تتشبث بها متعللة بالحرب الباردة وأزمة برلين والمسائل الاستراتيجية ودورها في منظمة حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى دوافعها غير المعلنة في أن تظل بنزرت قاعدة خلفية لعملياتها الحربية في الجزائر المحتلة.

  تصلب الموقف الفرنسي والسير نحو المعركة:

بعد جلائها من مواقعها داخل البلاد التونسية بمقتضى اتفاق 17 جوان 1958، ظلت فرنسا تماطل في الإقرار بمبدإ الجلاء عن بنزرت وتحديد جدول زمني له كما تجاهلت بادرة الولايات المتحدة الأمريكية واتفاقها مع المغرب يوم 22 ديسمبر 1959 على سحب قواتها منه خلال 4 سنوات ورفضت النسج على منوالها مع تونس.

وخلال شهر جانفي 1960 جددت تونس المطالبة بالجلاء ووجهت مذكرة للحكومة الفرنسية في الغرض، كما حددت الحكومة التونسية يوم 08 فيفري 1960 موعد إعلان معركة الجلاء في صورة رفض فرنسا الدخول في المفاوضات حول بنزرت. وبالتوازي مع العمل الدبلوماسي كثفت الحكومة الضغط العسكري والشعبي على الميدان إذ وجهت تعزيزات من الجيش الوطني بـ 500 رجل نحو بنزرت وبدأ توزيع الأسلحة على المواطنين، كما تم إدخال الاضطراب على تزويد القاعدة بالماء…

وجوابا على المذكرة التونسية أكدت الحكومة الفرنسية أنه إذا لجأ التونسيون إلى القوة فإن قواتها سترد الفعل. كما أكدت أنها تقبل التفاوض مع تونس حول شروط استعمال القاعدة  ولكنها ترفض الجلاء عنها في الوقت الراهن.

وأمام خطر هذه المواجهة الأولى التي لم تتهيأ لها البلاد فضلت الحكومة التونسية التريث ودعت فرنسا إلى تخفيف تواجدها في بنزرت تدريجيا.

وفي 29 مارس 1960 أعلنت فرنسا عن نيتها في الجلاء عن الثكنات المتواجدة في مدينة بنزرت قبل 31 أكتوبر 1960 ودراسة إمكانية تحويل الأنشطة الصناعية بسيدي عبد الله من الإنتاج الحربي إلى الإنتاج المدني ووضعها في خدمة الاقتصاد التونسي.

وفي الأثناء وقبل أن يكتمل انسحابها من الثكنات المدنية طالبتها الحكومة التونسية بالجلاء التام عن القاعدة. وتزامن هذا الطلب مع إمضاء الاتفاق. الفرنسي ـ المغربي (01 سبتمبر 1960) حول الجلاء عن القواعد ـ المدارس الفرنسية بالمغرب كما تزامن أيضا مع انسحاب بلجيكيا من قواعدها بالكونغو. وقد وافقت الحكومة التونسية يوم 09 ديسمبر 1960 على الاقتراح الفرنسي حول تحويل الأنشطة الصّناعية العسكرية في سيدي عبد الله إلى أنشطة مدنية وتمّ تشكيل لجنة مختلطة تونسية ـ فرنسية لدراسة المسألة.

وفي هذه الظروف التي تميزت بانفراج في العلاقات بين الطرفين عقدت قمة Rambouillet بين رئيسي الدولتين يوم 27 فيفري 1961 وانتهت دون تحقيق نتائج ملموسة إذ تمسكت فرنسا بعدم الانسحاب من القاعدة  كما رفضت المقارنة بينها وبين القواعد  المدارس الفرنسية بالمغرب لأنها دون قيمة استراتيجية.

وبعد بضعة أسابيع من قمة Rambouillet واجهت الحكومة الفرنسية تمرد غلاة الاستعمار من العسكريين الفرنسيين في الجزائر المنادين بالجزائر الفرنسية والهادفين إلى تعطيل المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني والحالمين بإعادة احتلال تونس والمغرب. وفي هذه الظروف رأت الحكومة التونسية أنه من غير المناسب طرح مسألة بنزرت كي لا تزيد من “متاعب الحكومة الفرنسية” وحتى تعطيها المهلة الكافية لترتيب شأنها الداخلي. وإثر القضاء على هذا التمرد استأنفت فرنسا المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني (محادثات أفيان من 20 ماي إلى 13 جوان 1961) الجزائرية التي طالبت بالجلاء عن قاعدة المرسى الكبير وهي قاعدة فرنسية بالجزائر مشابهة لبنزرت. لكن محادثات Evian فشلت وهو ما جعل الحكومة التونسية تخشى أن تواصل فرنسا المحافظة على الأمر الواقع في الجزائر وفي بنزرت.

 

 الاعتداء الفرنسي واندلاع المعركة:

لم تكتف فرنسا بإجهاض العمل السياسي بمواقفها المتصلبة والرافضة للتفاوض بل عمدت إلى تحدي إرادة الشعب التونسي وحكومته والشروع منذ أواخر شهر ماي 1961 في توسيع مدرج الطائرات بمطار سيدي أحمد وتهيئته لاستقبال طائرات حديثة من نوع Mystère عوضا عن طائرات Mistral.

أمام هذا التحدي جددت الحكومة التونسية يوم 28 جوان 1961 المطالبة بالجلاء عن القاعدة، إلاّ أن السلطات العسكرية بها واصلت تعنّتها فعمدت إلى توسيع القاعدة بتحويل سياجها من الأسلاك الشائكة خارج حدودها الأصلية. وكلفت وحدة عسكرية يوم 30 جوان بتلك العملية فاعترضتها القوات التونسية ووقعت بين الطرفين مشادات كلامية ونقاشات حادة.

واحتجت الحكومة الفرنسية يوم 1 جويلبية 1961 لدى الحكومة التونسية على لسان القائم بالأعمال الفرنسي بتونس واعتبر أن تعطيل الأشغال ” عمل خطير “. أما تونس فقد اعتبرت أن فرنسا قد خرقت، بتوسيعها القاعدة، اتفاق 17 جوان 1958 القاضي بتاجيل النظر في مسالة بنزرت مع المحافظة على حدودها. وقد عبر الديبلوماسي الفرنسي عن ً غضبً الأميرال آمر القاعدة وتهديده باستعمال القوة لاتمام أشغال التوسيع.

أمام خطورة التحدي الفرنسي انعقد الديوان السياسي للحزب برئاسة الحبيب بورقيبة يوم 4 جويلية 1961 وقرر خوض معركة الجلاء واعتبارها أول اهتمامات الحكومة والشعب. كما أعلنت الحكومة اثر اجتماعها يوم 5 جويلية 1961 أن “حضور قوات أجنبية على جزء من أرضها ورغم ارادتها يعتبر تعديا على السيادة الوطنية وأن هذا الوضع يعيق النمو الاقتصادي والاجتماعي الذي تسخر الأمة كل جهودها لبلوغه”.

وكانت جموع المتطوعين قد بدأت في التوافد على بنزرت وانعقدت الاجتماعات في كامل تراب الجمهورية للتعبئة . كما بدأت أعمال حفر الخنادق حول القاعدة الجوية بسيدي أحمد وفي المواقع الحسّاسة المحيطة بها. ومنذ يوم 7 جويلية بدأت أولى عناصر الجيش الوطني تظهر على الساحة. كما تم تعزيز المنشآت الصحية بالاطارات وتوفير كميات هامة من الأدوية ووضعت كل الهياكل الصحية في حالة تأهب لمجابهة أي طارئ.

يوم 06 جويلية 1961 وجهت الحكومة التونسية إلى الجنرال ديقول رسالة تضمنت المطالبة مجددا بالجلاء غير أن الحكومة الفرنسية تجاهلت الأمر حتى يوم 13 جويلية 1961 وتم التصريح بعد اجتماعها أن “المفاوضات لا يمكن أن تتم في جو مشحون بالتوتر والمظاهرات”  . أمام هذا الرفض أعلن بورقيبة في خطابه يوم 14 جويلية أنّه: ” يجب أن يعلم الجميع في تونس، في فرنسا وفي أي مكان آخر أن هذه المعركة جدية”. كما أعلن في اجتماع عام عقد بساحة القصبة حضره حوالي 100 ألف “يجب أن يكون الجلاء تاما لنحافظ على حظوظ تعاون جدي”. لقد كانت الحكومة التونسية عازمة على خوض المعركة لكنها كانت تفضل إيجاد حل سلمي لها إذا وافقت فرنسا على القبول بالجلاء وتحديد جدول زمني له غير أن فرنسا أبت غير ذلك. وتم إعلام الحكومة التونسية يوم 18 جويلية 1961 برفض ديقول مناقشة مسألة بنزرت وهو ما اعتبر تحديا لتونس واعتداء على سيادتها وبات من الواضح أن الأزمة تسير باتجاه التعقيد وأنه لا مناص من المواجهة.

 

 المعركة: 19 ـ 23 جويلية 1961:

أعدت السلطات العسكرية ببنزرت خطة محكمة للهجوم تمّ عرضها على الحكومة الفرنسية وكانت تعليمات الجنرال ديقول واضحة ” اضربوا بسرعة وبقوة “.

ولقد بالغت فرنسا في حشد الحشود للمواجهة مع الشعب التونسي فعززت قواتها بالمظليين من مشاة البحرية وهم الذين شاركوا في تمرد الجزائر (أفريل 1961) وجاؤوا” ليضيفوا أعمالا بطولية إلى سجلاتهم”. وهو ما جعل القوات المتقابلة غير متكافئة: فمن الجانب التونسي نجد الأفواج 5، 6، 7 و12 للمشاة وبعض قطع المدفعية وحوالي 200 من الحرس الوطني وحوالي 6000 من المتطوعين عزل وشبه عزل في أغلبهم. وكان الجيش التونسي آنذاك ضعيف التسليح وحديث العهد بالحروب إلا أن عزيمة إطاراته وجنوده كانت أقوى من عتاد المعتدين الذين استعدوا للمعركة أكبر استعداد في حربهم ضد التونسيين المنادين بالجلاء. فحسب الأميرال Amman كان هناك 3500 رجل على الأقصى من بين 7700 موجودين بالقاعدة جاهزين للتدخل في حال نشوب المعركة وكان يخشى محاصرة القاعدة واختناقها رغم ما كان تحت إمرته من أفراد وعتاد: 9 طائرات من نوع  Mistral، 15 طائرة  Mystère IV، 12 طائرة Corsaire، 4 سرايا للدفاع الجوي والبحري، عدة بوارج بحرية قبالة بنزرت (Arromanches, Colbert, De Grasse…) إضافة إلى التعزيزات التي وصلت من الجزائر: يوم 19 جويلية متكوّنة من الفوج الثاني للمظليين من مشاة البحرية (R.P.I.M.A 2ème  (ويوم 20 جويلية وصل الفوج الثالث من مظليي مشاة البحرية(R.P.I.M.A 3ème)  ويوم 21 جويلية وصل الفوج الثالث الأجنبي للمشاة (. (  3ème  REI…

أمام هذه التعزيزات والاستعدادات قررت الحكومة التونسية إعطاء الأمر للقوات المسلحة بإطلاق النار على أي طائرة فرنسية تخترق الأجواء التونسية يوم 19 جويلية. وتم فعلا على الساعة 15.22 إطلاق النار على طائرة Alouette وسرب من طائرات Corsaires كانت تستطلع فوق المواقع والمخيمات التونسية. فقامت الطائرات الفرنسية بقصف المواقع التونسية التي ردت بقصف منشآت سيدي أحمد والخروبة. ودارت الاشتباكات مساءا في ميناء سيدي عبد الله وفي منزل بورقيبة.  وفي يوم 20 جويلية هاجم التونسيون مجددا قاعدة سيدي أحمد ممّا أدى إلى خروج القوات الفرنسية من القاعدة بهدف تدمير المقاومة واحتلال المدينة في إطار العملية المسماة “Charrue Longue”. وتعرض مئات المتطوعين لنيران المدفعية الفرنسية في المصيدة، كما دارت معارك طاحنة في محطة القطارات بسيدي أحمد. أما في مصنع الإسمنت الذي أقام فيه التونسيون مدافع عيار 105 فقد تعرضت القوات التونسية للقصف الجوي المكثف من الخروبة وكان صمودها بطوليا وتراجعت أمام كثافة النيران المعادية وهي تقاتل ملحقة بالقوات الفرنسية عديد الخسائر. ويعتبر يوم 20 جويلية يوما داميا سقط فيه العشرات من الموتى والجرحى وحرمت المدينة من الماء والكهرباء.وإثر هذا العدوان، قطعت تونس علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا للمرة الرابعة منذ الاستقلال.

اقتحمت القوات الفرنسية المدينة يوم 21 جويلية 1961 بعد أن دمرت المواقع التونسية خارجها. وقد تبين للقادة العسكريين التونسيين في بنزرت أن الهدف الرئيسي يجب أن يكون الدفاع عن المدينة باستماتة وعدم إباحتها للمظليين الذين أرادوا استعادة السيطرة على القنال وثكنات المدينة واحتلالها بالكامل. ورغم عدم إقحام الطيران في مهاجمة المدينة فقد ألقى Amman بحوالي 3600 رجل في كل مداخلها: باب ماطر، ضفتي القنال… وتمكن المظليون من السيطرة على القنال واعتصم التونسيون بالمواقع الحيوية بالمدينة العتيقة وفوق السطوح واندلعت حرب شوارع التقى فيها صمود الأهالي مع نيران الغزاة المندفعين نحو المعركة وكأنهم ينتقمون من شعب ساند إخوته في الكفاح بالجزائر أو أنهم يبحثون عن رد اعتبار لهم في مواجهة شعب شبه أعزل. وتكفي قراءة ما صرح به أحدهم لفهم النزعات التي كانت تدفعهم: ” لقد أعطتنا أسلحتنا ومفعول الصاعقة الذي تحدثه إحساسا عجيبا بالقوة، في تلك اللحظة لم تعد تهمني سمعة فرنسا في العالم… لقد كنا نحن المظليين أشبه بقطيع من الذئاب التي اندفعت في المدينة وأحكمت الخناق على الجيش التونسي” .

وظلت القوات المسلحة التونسية في الأنهج والأزقة وفوق السطوح تقتنص المعتدين وتدافع عن المدينة التي غادرها أغلب سكانها، ولا تعير اهتماما لشعارات مثل “ارفعوا العلم البيض وسنعاملكم كجنود شجعان..” وتواصلت المعارك طيلة الليلة بين 20 و21 جويلية 1961 لتسفر صباح السبت عن عشرات الجثث المتناثرة في الشوارع. كانت المقاومة أشد مما توقعه المعتدون فقد اعتصمت القوات التونسية بالمدينة العتيقة وبجزء من المدينة الحديثة أما القوات الفرنسية فقد سيطرت على جزء من المدينة الحديثة بعد أن اقتحمتها من باب ماطر ولم يبق أمام الأميرال Amman سوى التدمير الكلي للمدينة العتيقة ونسفها للقضاء على المقاومة، وهذا ما لم يكن ليفعله.

 وإن كان من الصعب الحصر الدقيق لعدد الضحايا فإن بعض الدراسات تقدم الأرقام الآتية: 639 قتيل  منهم 364 عسكري و45 حرسا وطنيا و230 مدني وحوالي 1000 جريح ومن الجانب الفرنسي 27 قتيلا..             

وأمام خطورة الوضع قرر مجلس الأمن وقف إطلاق النار وعودة القوات إلى مواقعها ورغم ذلك تواصل القصف الفرنسي في بنزرت وخارجها. وقد طالبت تونس بعودة فيلقها المتواجد في الكونغو ليشارك في معارك الجلاء. كما رفعـت شكوى ثانية أمام تواصل العدوان (قصف العوينة، قصف الكاف…). ولم تكن زيارة همرشولد ذات نتائج مباشرة بسبب تعنت الفرنسيين ومواصلتهم الحفاظ على الأمر الواقع في بنزرت. وقد تعرض موكبه للتفتيش كما رفضت السلط العسكرية الفرنسية ببنزرت مقابلته.

 إلا أن تونس لقيت مساندة الدول الأفروآسياوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وحققت نصرا دبلوماسيا يوم 26/08/1961. وقد شرعت أفواج المدنيين الفرنسيين بمغادرة بنزرت منذ وقف إطلاق النار يوم 23/07/1961.

وكانت تونس ترفض بعد نصرها الدبلوماسي أن تكون مسألة بنزرت مسألة ثنائية مع فرنسا كما رفضت تطبيع العلاقات ما لم تبدأ مفاوضات جدية حول مصير القاعدة. واتجهت العلاقات تدريجيا نحو الانفراج بتبادل الأسرى: 184 مدني و 31 عسكريا فرنسيا مقابل 740 تونسي عسكريين ومدنيين. وتتالت المفاوضات في روما يومي 7و8/12/61 و 27و28/12/1961 عقبتها مفاوضات باريس 15 ـ 19 جانفي 1962 التي انتهت بقبول مبدأ الانسحاب قبل موفى 1963.

 وفي يوم 15/10/1963 على الساعة 16.00 غادر الأميرال  Vivier آمر القاعدة سابقا بنزرت ترافقه قطعتان تونسيتان وهما الدستور والجمهورية. وانتظم الاحتفال الكبير بحضور قادة من مصر والمغرب العربي يوم 13/12/1963 ليتوج انتصار الشعب التونسي وقواته المسلحة على آخر بقايا الاستعمار بالبلاد.

 

المصادر والمـــراجــــــع

 

     – A.G. Mezerik, Tunisian-French dispute : Bizerta, Sahara, UN

                    action, New York, 1961.

–           Abis Sébastien, « Décrypter l’Affaire de Bizerte dans son contexte global », in colloque annuel « Bizerte*** » 29 – 30 Juillet 2005, A.S.M Bizerte 2005.

–           Abis Sébastien, L’affaire de Bizerte : une crise dans les relations Franco-tunisiennes, Sud Editions, Tunis, 2004.

–           Ben Abdeljelil ( R ), L’évacuation de la base militaire de Bizerte 1956 – 1963 : Un problème de décolonisation ; mém. DEA, S.dir. Med  Lazhar Gharbi, Univ. Tunis I, F.S.H.S., Tunis, 2003.

–           Boujallabia (N), La bataille de Bizerte telle que je l’ai vécu, Sud Editions, Tunis 2005.

–           MENAJA (A), La bataille de Bizerte, Artypo, Tunis, 1984.

–           Nicole Grimaud, « La crise de Bizerte » in Revue d’Histoire Diplomatique, 2ème semestre 1996.

–    محمد سعيد الكاتب، شهادة حية عن معركة بنزرت” مجلة الدفاع العدد 39، جانفي 2001، ص ص30 ـ 35.

 –  عبد العزيز سكيك، ” دور الجيش في معارك الحدود والجلاء”، أعمال ندوة تاريخ الجيش التونسي من العهود القديمة إلى عهد التحول 30، 31 أكتوبر 1997، منشورات وزارة الدفاع الوطني، فيفري 1998.

–    م. أول المالكي، “معركة رمادة: ماي 1958، مجلة الدفاع العدد 22، 1984 ص 28 ـ 29.

Top